أما بعد:
فإن الوصية المبذولة لي ولكم عباد الله، هي تقوى الله ـ سبحانه ـ، في السر والعلن، في الرغبة والرهبة، في الغضب والرضا، إنما يتقبل الله من المتقين، الذين تدفعهم تقواهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده.
أيها الناس، لقد منّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عباده بفصول أربعة، يتقلب فيها الزمن، على حر صيف، ويبس خريف، وبرد شتاء، وحسن ربيع، وجعل لكل فصل من هذه الفصول حكمة، يرعوي إليها من به ادكّار فهل من مدكر؟!
في الصحيحين أن النبي قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم))[1].
ولقد جعل الله ـ سبحانه ـ أشياء كثيرة تذكر بالنار ولهيبها، كالأزمنة المفرطة في الحر أو البرد، فبردها يقرقف[2]، ويذكر بزمهرير جهنم، وحرها يأخذ بالأنفاس ويذكر بحر جهنم وسمومها، قال الحسن البصري: "كل برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنم، وكل حر أهلك شيئا فهو من نفس جهنم"، وقال قتادة في معرض هذا: هل لكم بذلك يدان أم لكم عليه صبر ؟ طاعة الله ورسوله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله .
أنسيت لظى عند ارتكابك للهوى وأنت توقى حر شمس الهواجر
أيها المسلمون، إن الله ـ جل وعلا ـ سيحشر الأموات جميعا، من قبورهم بعد البعث إلى الموقف حفاة عراة غرلا، كما بدأ أول خلق يعيده وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]. يجمع الناس في عرصات القيامة، أولهم وآخرهم على صعيد واحد، فيموج بعضهم في بعض، وتدنو الشمس منهم حتى تكون كمقدار ميل، فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون ولا يحتملون، فمنهم من يبلغ به العرق إلى كعبيه، ومنهم من إلى ركبتيه، ومنهم من إلى حَقْوَيْه[3]، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، فيكون الناس أحوج ما يكونون إلى ما يروون به غليلهم، ويشفون عليلهم، أحوج ما يكونون إلى ما يقطعون به ظمأ الهاجرة، وغصة الحشر المهول، إنهم ـ يا رعاكم الله ـ يطمعون في ورود حوض نبيهم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَٱنْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ [سورة الكوثر]. قال رسول الله : ((هل تدرون ما الكوثر؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هو نهر أعطانيه ربي ـ عز وجل ـ في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة..)) الحديث.. [رواه أحمد][4].
إننا بحاجة ماسة ـ عباد الله ـ إلى أن نلبث مليا حول هذه النعمة المسداة المنصوبة في عرصات القيامة، لنأخذ منها دروسا وعبرا، علها أن توقظ غافلنا، وأن تبصر جاهلنا، بأنه لا عيش إلا عيش أهل الآخرة، إنا لنعمى مرات والعيون ناظرة، فالله مولانا ونعم المولى، وقل لمن يعصيه أولى أولى، ما هو إلا عفوه وحلمه، سبحان من لا حكم إلا حكمه.
جاء عند مسلم في صحيحه :أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة[5]. الحوض ـ عباد الله ـ قبل الصراط، عند وجود الناس في المحشر، يرده المؤمنون ويذاد عنه الكافرون، طوله شهر، وعرضه شهر، كما بين المدينة وصنعاء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه[6] كنجوم السماء في عددها ونورها ولمعانها، وهو أبرد من الثلج، وأحلى من العسل، من شرب منه لا يظمأ بعدها أبدا، يصب فيه نهر الكوثر الذي حافتاه قباب الدر المجوّف، وطينه مسك أذفر، وهو موجود الآن لقوله : ((وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن)) [رواه البخاري][7].
كل هذه الصفات ـ عباد الله ـ صح بها الخبر عن الصادق المصدوق في الصحيحين وغيرهما مما يوجب الإيمان به والطمع في وروده، بيد أن ثمة قضية تحتاج إلى إمعان النظر فيها، والصدق مع الله في طرحها، والأخذ بأسباب التوقي من أن يكون مسلم ما في عداد الملتاثين فيها، ألا وهي ما يقع يوم القيامة من المفاجآت في أناس يطمعون أن يكونوا ممن يرد حوض نبيهم، فإذا هم يذادون عنه ويحرمون النهل منه، بل إنهم بذلك يفقدون مفتاح الجنة، وهو الشرب من هذا الحوض، قال رسول الله : ((إني فَرَط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، لكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) [رواه البخاري][8].
والنكتة اللطيفة ـ عباد الله ـ أنه ذكر الحوض قبل التحذير الذي بعده، ليشير إلى التخويف من فعل ما يقتضي الإبعاد عن الحوض.
وجاء عن البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((إني على الحوض، حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب، مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) وكان ابن أبي مليكة راوي الحديث يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن في ديننا[9].
وجاء عند مسلم في صحيحه أنه قال: ((إني لأذود عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة عن الإبل))[10]، والمعنى ـ عباد الله ـ أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض.
أيها المسلمون، إن الأمة الإسلامية لهي في أشد الحاجة إلى أن ترد حوض نبيها، وإن هذه الأجيال المتأخرة ليخشى عليها من ظلمات لا يجد فيها الحاذق بصيص نور يهتدي به إلى سواء الصراط، أو يخلص به من ضلاله، وإن الإحداث والتغيير الذي دب في صفوف المسلمين، لهو خير شاهد على هذه القضية، ونحن اليوم ـ معاشر المسلمين ـ نعيش معركة حامية مع الازدواجية في كثير من أجوائنا الحياتية ـ إلا من رحم الله ـ يجمع بين الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والزين والشين.
ولعل الازدواجية الصحافية في مثل هذه الأيام هي مقبض الرحى في كثير من الأقطار الإسلامية والعربية، والتي اندلعت نارها وطار في كثير من أرض الإسلام شرارها، لقد أهمل كثير من الأقلام، فلم تسخّر للإسلام، بل ما فتئ بعضها يلهو ويلعب ويسخر، وكأنه مدافع الأعياد، تتفجر بالبارود الكاذب، وسط مجتمعات مقرومة مجعومة، يتيه فيها اللبيب، وإن تعجبوا ـ عباد الله ـ فعجب أن يكون الاسم مسلما، وما يخطه البنان غريبا كل الصحفي الغرابة عنه! أين تلك الأقلام؛ لتدل الناس على ما يحفظ لهم دينهم ويحصي كيانهم، وتحذرهم من شرور الكفرة الحاقدين، وتقيم لهم الميزان العادل، فيرجعون عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يذرون.
واخجلتاه!! من أقلام محسوبة على المسلمين يموت فيهم العالم، وتبلى الأمة ببلايا ورزايا ثم لا تكتب فيها حرفا، بل هذا زاهد في حق هذا، وهذا فيه أزهد منه فيه. لقد شغلها عنها شواغل الصبيان في الأوحال، ومباهج أحلام شبابهم، وملذات الغرام التي يسمونها حتى في حال الوفاة ((أسطورية)) أيا كان هذا المتوفى رجلا أو امرأة، كافرا أو ملحدا، بغيا أو خبيث الطبع.
إن مثل هذه المشاعر الصحفية في تضخيم وفاة شخص ما، نفسها أو أحر منها، موجودة عند رواد الصحافة، وعشاق الورق في بلاد الإسلام وللأسف، وهي مشاعر يأباها الدين جملة وتفصيلا، ما دامت توهن إيمان المرء بالله وترده إلى غيره من الأحياء أو الأموات، ويالله! كم يحزننا أن يكون قلب امرئ ما فارغا من الله، مملوءا بغيره ـ بقوا أو هلكوا ـ؟
إن الانسياق مع مثل هذا جرم، وإحسان الحديث عنه زور، وإذا حكم ذوقهم على المرء بأنه حلو أو بالعكس فهو مدلس مخوف، هو وأمثاله كشجرة ((الدلفى)) تُعْجِبُ من رآها وتقتل من أكلها، وما محبوهم إلا أنوف أزكمها الغبار فاستوت عندها الروائح، أو جسوم تندت ولم ينزع مبلولها فما هي إلا الحمى ما منها بد.
عن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني )) [رواه أحمد وابن أبي شيبة][11].
فالعجب ـ عباد الله ـ ممن يعلم خطورة الركون إلى غير الإسلام، أو ميل القلب أو العاطفة، مع أحياء غير المسلمين أو أمواتهم ـ مهما كانت الظروف التي تحيط بهم، ودوافع الرغبة أو الرهبة، التي تنبعث من قبلهم ـ؛ فإن ذلك كله لا يسوغ تحبير الأقلام فيهم، ولا خلع الجلباب الساتر، والانتماء الزائف، مهما نعق الناعقون، بأن لهذه الشخصية أعمالا خيرة، بل وإن بلغ التجرؤ ببعضهم من وصف مثل هذه الشخصية بأنها طبقت الإسلام وإن لم تكن مسلمة، في صحافة المسلمين المتنوعة.
وما علم مَنْ جَهْلُهُ مُرَكَّب أن عملا ما بلا إسلام مهما كان خيرا، فلن ينفع صاحبه في أخراه، يقول الله ـ جل وعلا ـ في حق الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً [الفرقان:23]، مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَىْء ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ [إبراهيم:18]. وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْانُ مَاء حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ [النور:39].
قدم أبو سفيان المدينة قبل أن يسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس[12].
هكذا فعلت أم المؤمنين في أبيها بكلمة حق، خرقت بها مثلا عربيا: كل فتاة بأبيها معجبة . ما دام أن الإيمان لم يخامر قلبه، وكلمة التوحيد لم ينطق بها لسانه.
ألا فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن رسالة المصطفى كفراشه، فمن أجلس عليه من ليس من دينه فلن يرد حوض النبي لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا رَضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
اللهم ارزقنا شفاعة نبيك ، وأوردنا حوضه، واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا يا رحمن.
[1] صحيح البخاري ح (537)، صحيح مسلم ح (617).
[2] قرقف: أرعد (القاموس ، مادة قرقف).
[3] حَقويه: تثنية (حَقْو) بمعنى الكشح (القاموس ، مادة حقو).
[4] صحيح، مسند أحمد (3/102)، وأخرجه مسلم ح (400).
[6] كيزان: جمع كوز (القاموس ، مادة كوز).
[7] صحيح البخاري ح (6590).
[8] المرجع السابق، الحديث نفسه.
[9] صحيح البخاري ح (6593).
[10] صحيح مسلم ح (2302)، وأخرجه أيضًا البخاري ح (2367).
[11] حسن، مسند أحمد (3/338)، مصنف ابن أبي شيبة (6/ 228).
[12] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/79) بسنده إلى الزهري. وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي شيخ محمد بن سعد. قال ابن حجر في الواقدي: متروك مع سعة علمه. التقريب (6215).
وفيه انقطاع أيضًا فالزهري لم يدرك أبا سفيان ولا أم حبيبة رضي الله عنهما. |