أما بعد:
فمهما يكن من شيء بعدُ، فوصيتي لكم ونفسي بتقوى الله ـ سبحانه ـ؛ فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، وسلوانه في وحشته، ودليله في الأخرى يوم يلقى الله ـ سبحانه ـ إلى جنات النعيم.
عباد الله، إننا لنعلم بالضرورة أنه لا يجوز للناس أن يتخذوا غير الله ربا أو حكما، وأن من فعل ذلك أو هم به فهو جاحد للحق خائن للنعمة، وكذا من اتبع غير ما شرعه الله، أو حكم بغير ما أنزل الله، إنما هو مهمل للتشريع الإلهي، ومعتنق للقوانين البشرية، في عبث شائن وجاهلية منكرة أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].
إنها لم تترك أحكام الله إلا ببواعث الهوى، غير أنه منظم ومزوّق[1]، كأنه منطق العقل الشديد، وهدي المصلحة الزائفة، التي لا تتصل بحنايا القلوب ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ [يونس:94]. إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [يوسف:40]. وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70].
إن الشريعة الإسلامية ضمان للصالح العام، وهي مبنية على الرحمة والعدل، والخير الذي يأمر الله عباده به ـ وما يأمر إلا بخير ـ تعود غايته لإسعاد الناس في عاجلهم وآجلهم، والشر الذي نهاهم عنه ـ وما ينهى إلا عن شر ـ ليس إلا وقاية لهم، من أذى قريب أو بعيد، أو من سوء مغبة جلية أو خفية؛ ولذا سما الإسلام بالإنسان روحا وجسدا، وعقلا وقلبا، لم يضع في عنقه غلا، ولا في رجله قيدا، ولم يحرم عليه طيبا، كما أنه لم يدعه كالكرة تتخطفها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه، بل خاطبه ربه خطابا صريحا يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ ٱلَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـٰقِيهِ [الانشقاق:6].
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "اعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ اختص نوع الإنسان من بين خلقه، بأن كرمه وفضله وشرفه، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات|".
ومن ثم ـ عباد الله ـ، فإن الناس في هذه القضية طرفان، فالماديون التحرريون قالوا: إن الإنسان يعيش لنفسه ومتاع الدنيا، فإذا كان الأحمق منهم يعيش ليأكل، فإن العاقل منهم يأكل ليعيش.
وأما المؤمنون الموحدون فقالوا: إنما يعيش الإنسان لربه الأعلى، ولحياته الباقية الأخرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
بيد أن أهل الكفر ـ عباد الله ـ قد بذلوا غاية وسعهم في الدعوة إلى قضية كبيرة، وراءها ما وراءها من الخطورة على الفكر، والدعوة في المسلك، ألا وهي ما أسموها: "مبادئ حقوق الإنسان"، وجعل الحريات حسب مفهومهم العلماني، الرافض للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها سببا يبيحون به تدمير الأخلاق، ويشيعون به فوضى الغرائز في ديارهم، والبلاد التي تشبهها أو تقتدي بها، حتى تلتبس بلباس العلمانية، المخيط من جراء التحرر وتنحيته عن واقع من بابته ؛ حيث إن حلوها مر، وسهلها صعب، ودماثتها دميمة من الدين.
ولقد صدقوا ظنهم، فاتبعهم أغرار ولهازم، من مفكرين وكُتَّاب، في العلوم بأنه مخالف الحياة.
وهم يزعمون أنها مبادئ الحضارة والتقدم والرقي، من خالفها وكابر فيها رموه بمبادئ حقوق الإنسان، وليست من الحق في ورد ولا صدر، ولا هي من السياسية والاقتصادية والقانونية، وعلم الاجتماع، وأخذوا في الدعوة إلى حقوق الإنسان على ما يريده الغرب، ومن عامة الناس أشياع لهذه الدعوات ولِدَاتٌ، ويتنكرون لأصول دينهم، إبان سنة من ذوي الإصلاح والتوجيه، ويظنون في مبادئ حقوق الإنسان، النضج والخروج من المأزق، وأن ما يأتي من ديار الإسلام قديم بال، حتى وقعت مواقع بين الطرفين، وكان سلاحها من أولئك قذائف الزندقة والكفر، ومن أولاء دروع الاستكانة والتخاذل عن القيام بالواجب.
هذه المبادئ التي أرادوها بشعار الحرية والمساواة والإخاء، ويالله! إلى أي مدى بلغت هذه المبادئ من تضليل الشعوب، بيد أن الجميع غير قادرين على أن يصلوا إلى نقطة ارتكاز ينبثق منها هذا المبدأ المزعوم، فماذا تعني عندهم كلمة الحرية والمساواة والإخاء، أهي في الفكر؟ أم الاقتصاد؟ أم الصحافة؟ أم الاجتماع؟!.
وإذا سلمنا جدلا أنها تعني هذه المعايير كلها، فمن الذي يحدد نسب هذه الحريات وحدودها؟ أهو السلطان؟ أم الشعوب؟ أم الشعار نفسه؟!.
الواقع المشاهد ـ عباد الله ـ، أن منشئ معاني هذه المبادئ لم يصلوا إلى تحديد الوجهة، ولا زالوا يعانون من مشكلات هذه الأطروحة، والحق أن من كان خصب الحدس واسعه، علم أن هذا كله كان ألفاظا ورسوما لمقررات اليهود وحكمائهم، التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تَرَوٍّ، بل إنها جلبت لنا أعوانا من جميع أنحاء الدنيا، والحق ـ عباد الله ـ أنه مخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينا.
أيها المسلمون، إن الكثيرين يسمعون ويشاهدون في صحف العالم تارة، وفي المنتديات المقنعة تارات، لغطا جهولا، مصحوبا بقلم متعثر، وفكر في كل واد منه شعبة، حول قسوة القيود، التي جاء بها الشارع الحكيم، ورميها بأحد العبارات المسفهة، ودهماء الناس مشغولون بالجدل والحوار حول ما يثيرونه، ويتوهمون أنها مشكلات حقيقية، لابد لها من حلول، فيقدمون في التشريع، ويهوشون في الحدود، ويفتحون ملف المرأة على أنها مهضومة الحق، أسيرة الكبت، ولا قدم لها في المنتدبات أو الدوائر المكشوفة، وأنها متى رغبت في أخذ حقها المزعوم، أو التعبير عن رأيها الفاضح، فليس لها إلا أن تتسلل لواذاً على تخوف لا يزيله إلا تقادم الأيام ومر الليالي.
ونظن أن خطورة مثل هذه القضية قد تبدت خطوطها، ولا يظن بالطبع أن ما بقي من ألوانها ورسومها بمعجزنا أن نتخيله، فمواقعوها صنف من الناس يتمددون بالحرية، وينكمشون بالإسلام ـ وكفاكم من شر سماعه ـ وتلكم ـ شماله نعيذكم بالله ـ من غائلتها، يشوشون حق المرأة، ويطلبون إنصافها، فطلبوا بذلك زكاما، في حين أنهم ما أحدثوا إلا جذاما، وحللوا بزعم منهم عقدا، وبالذي وضعوه زادت العقد.
ولا غرو أن يحصل هذا ـ عباد الله ـ، إذا نطقت الرويبضة، ولا جرم أن لا يصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا، ومن يثني الأصاغر عن مرادهم إذا جلس أكابرهم في الزوايا؟!.
إني أسائلكم ـ عباد الله ـ ما هذه الحرية التي يطبلون لها ويزمرون، ويجعلون الاعتداء عليها أو التطرق لنقدها كفرا بها وبالديمقراطية، ما هذا كله ؟ أهي حرية المرأة في أن تخلع جلباب حيائها، وتكشف من جسدها ما تريد ؟ أو هي حرية الفسوق والعصيان اللذين كرّههما الله إلى السلف الصالح وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8].
إنهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما انهم يهرفون بما لا يفقهون، وإما انهم يتسترون بالألقاب والمسميات الخلابة، من حرية وإخاء، وفكاك من إصر وأغلال، والله أعلم بما يوعدون، والمثل السائد: "تحت الرغوة اللبن الصريح"، وإلا فأي أمة تصنع هذا الصنيع، وهي تريد أن تكون ممن يرد حوض نبينا ؟ أتريد أن تكون بدعا من الأمم، تأخذ من كل أمة شر ما عندها، وتدعو إلى أن تبدأ حياتها الاستقلالية بهذه الأخلاط من الشرور، المركبة تركيبا مزجيا يمنعها من الصرف والعدل، إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة.
قال رسول الله : ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى)) قالوا: من يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [رواه البخاري][2].
ولكن من مبلغ عنا الرعاع من بني قومنا، أن دعاة حقوق الإنسان وأبواقهم قد رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وخافوا بذلك أن تفوتهم حظوظ من الدنيا، بانقطاع لذائذهم، وانتشال علائقهم، فتقدموا حاقدين، ضامرين الغدر ناسين أن الله سميع بصير، وأنه خير حافظا وهو أرحم الراحمين، كما أنه كتب على نفسه أنه سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يدع بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، ولمثل هذا فليبك الباكي.
قال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) [رواه مسلم][3].
ومن هنا برزت لنا حقوق الإنسان على ما أراده الشارع الحكيم، في مثل خطاب النبي في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))[4]، وقد ترجم البخاري في صحيحيه بابا يقول: ظهر المؤمن حمى إلا من حدٍّ أو حق[5]، وتفسير هذه القاعدة يتمثل في أن حقوقه محمية إلا إذا ارتكب ما يوجب العقوبة عليه، كما أنها تعني كذلك: وجوب تطبيق الحدود، والغيرة على حرمات الله، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (والله ما انتقم رسول الله لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) [رواه البخاري][6].
ومن معاني القاعدة أيضا: المساواة أمام العقوبات بين الشريف والوضيع ؛ لأن الغاية هي المحافظة على حقوق الجميع، عملا بقوله : ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركونه على الشريف، والذي نفسي بيده لوأن فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها)) [رواه البخاري][7].
كما أن من معاني تلكم القاعدة العظمى: المحافظة على حقوق أهل الذمة، وهم الكفار الذين يدخلون في ذمة المسلمين، فإن دخلوا تحت أحكامهم حفظوا لهم حقوقهم ما داموا في ذمة الله ورسوله ، وأقاموا عليهم الحدود، فيما يعتقدون تحريمه؛ كالزنا ونحوه، فعن البراء بن عازب قال: مرّ على يهودي محمما مجلودا، فدعاهم النبي فقال: ((هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم)) قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟)) قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فقلنا: إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، وقال رسول الله : ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه))، فأمر به فرجم، فأنزل الله: يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]. [رواه مسلم][8].
[2] صحيح البخاري ح (6851).
[4] أخرجه البخاري ح (67)، ومسلم ح (1679).
[5] كتاب الحدود ـ الباب رقم (9) [فتح الباري 12/85].
[6] صحيح البخاري ح (3560). وأخرجه أيضًا مسلم ح (2327).
[7] صحيح البخاري ح (6788)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1688).
|