أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله حق التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى، فاتقوا الله واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
حجاجَ بيت الله، يا من أديتم مناسككم فوقفتم بعرفات، وانحدر بكم الشوق إلى المزدلفة فسكبتم عند المشعر الحرام العبرات، فلله كم من خائف منكم أزعجه الخوف من الله وأقلقه، وراج أحسن الظن بوعد الله فصدقه؟ وكم من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، وبلغ الأماني عشية عرفة؟
حجاج بيت الله الحرام، ليس السابق اليوم من سبقت به راحلته، إنما السابق من غفر له ذنبه وقبل عمله، فأخلصوا لله حجكم، واتبعوا سنة نبيكم تفلحوا، ومن قصر في جنب الله فليرجع إلى جهاد النفس، فهو الجهاد الأكبر، وحذار حذار، أن تحلقوا رؤوس أعمالكم بالذنوب؛ فإن الذنوب حالقة الدين، ليست الشعر وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا [النحل:92]. فلله ما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئة بعد الحسنة! فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ من العمى بعد الهدى ومن الحور بعد الكور.
عباد الله، إن الحج المتكرر في كل عام، منذ أن أذن إبراهيم ـ عليه السلام ـ في الناس بالحج، وهم يغدون إلى بيت الله العتيق من كل فج عميق، رجالا وعلى كل ضامر، لهو أمر دال باللزوم على أن السفر وقطع الفيافي والقفار، أمر ذو بال في واقع كل امرئ حي.
وما أكثر ما يسافر الناس لشؤون حياتهم! مادية أو معنوية، ولقد سافر رسول الله مرات ومرات، إبّان شبابه قبل البعثة، وبعد نبوته ما بين حج وعمرة، وجهاد وتجارة.
والسفر غالباً يعري الإنسان من الأقنعة التي كانت تحجب طبيعته، وما سمي السفر سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ولذا فإن السياحة في الأرض, والتأمل في عجائب المخلوقات، مما يزيد العبد معرفة بربه ـ عز وجل ـ، ويقينا بأن لهذا الكون مدبرا، لا رب غيره ولا معبود بحق سواه.
فالمسافر يتأمل ثم يتدبر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88]. ولقد أنكر الله ـ سبحانه ـ على من فقد هذا الإحساس المرهف بقوله وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105].
السفر عباد الله معترى بحالتين اثنتين: حالة مدح وحالة ذم؛ فالخروج من الملل والسآمة والضيق والكآبة من الناس والمكان للتأمل في خلق الله، أو طلب علم نافع، أو صلة قريب أو أخ في الله هو سمة السفر الممدوح، وهو مذموم أيضا، من جهة كونه محلا للمشاق والمتاعب؛ لأن القلب يكون مشوشا والفكر مشغولا من أجل فراق الأهل والأحباب؛ ولذا قال فيه النبي : ((السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)) [رواه البخاري ومسلم][1].
والمراد بالعذاب ـ عباد الله ـ، الألم الناشئ عن المشقة، لما يحصل في الركوب والسير من ترك المألوف .ولقد ذهب بعض أهل العلم كالخطابي وغيره، إلى أن تغريب الزاني، إنما هو من باب الأمر بتعذيبه ـ والسفر من جملة العذاب ـ ولقد سئل إمام الحرمين: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فرقة الأحباب.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ، أن السفر في هذه الآونة، يختلف عن السفر في قرون مضت، فقد مهدت الطرق، وجرت عليها العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاءوا أو تقلّهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا، كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشق الأنفس، أضحى يتم في أيام قصيرة بل ساعات قليلة، وبجهود محدودة بل وربما عطس رجل في المشرق فشمته آخر في المغرب، وهذا مصداق حديث النبي من أن تقارب الزمان من علامات الساعة كما عند البخاري في صحيحه[2].
ومع هذه الراحة الميسرة فإن الأخطار المبثوثة هنا وهناك لم تنعدم، ففي الجو يركب المرء طائرة يمتطي بها ثبج الهواء، معلقا بين السماء والأرض، بين مساومة الموت ومداعبة الهلاك فوق صفيحة مائجة، قد يكون مصيره معلقا بأمر الله في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك، مما يؤكد الاحتماء بالله وارتقاب لطفه المترجم بلزوم آداب السفر، والبعد عن معصية الله في هوائه بين سمائه وأرضه، والمستلزمة وجوبا، إقصاء المنكرات من الطائرات، والتزام الملاحين والملاحات بالحشمة والعفاف والبعد عما يثير اللحظ أو يستدعي إرسال الطرف، وإن تعجب ـ أيها المسلم ـ، فعجب ما يفعله مشركو زمان النبي من اللجوء إلى الله في الضراء فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]. وبعض عصاة زماننا سراؤهم وضراؤهم على حد سواء، فقبح الله أقواما؛ مشركو زمان النبي أعلم بلا إله إلا الله منهم.
أيها المسلمون، إن التقارب في الزمان والمكان بما هيأ الله من أسباب السرعة، لهو نعمة عظيمة ورحمة جُلَّى[3]، تستوجبان الشكر للخالق والفرار إليه، في مقابل التذكر، فيما فعله الله ـ جل وعلا ـ بقوم سبأ الذين كانوا في نعمة وغبطة، من تواصل القرى، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـٰهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءامِنِينَ [سبأ:18]. ولكن لما بطروا نعمة الله ومالت نفوسهم إلى ضد حالهم فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19]. ففرق الله شملهم بعد الاجتماع، وباعد بينهم بعد التقارب، حتى صاروا مضرب المثل؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ.
وبعدُ ـ عباد الله ـ، فإن من أعظم فوائد السفر، وأكثرها تعلقا بالله، معرفةَ عظمته وقدرته، بالنظر إلى ما ابتدعه ـ جل وعلا ـ، خلقا جميلا عجيبا، من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، وماذرأ فيه من مختلف الصور التي أسكنها أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها، من أوتاد ووهاد، فصار فيها جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن ذوات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ [النازعات:26]. كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، ونسقها على اختلافها بلطيف قدرته ودقيق صنعه، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه، ومنها مغموس في لون صبغ، قد طوِّق بخلاف ما صبغ به وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَابّ وَٱلاْنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء [فاطر:28].
فسبحان من أقام من شواهد البينات على عظمته وقدرته! ما انقادت له العقول معترفة به ومسلمة له، فبان لها أن فاطر النملة هو فاطر النخلة.
فالويل كل الويل لمن جحد المقدر وأنكر المدبر، زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، وغاب عن عقولهم المختلة، وأذهانهم المعتلة، من عقله أكبر من حضارتهم بعبارات ثرة على أعرابيته وبداوته: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج وأثر يدل على المسير، وبعرة تدل على البعير، ألا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير. إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيّتِ مِنَ ٱلْحَىّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ [الأنعام:95، 96].
أيها الناس، لربما رفع أحد منا عقيرته فقال: إن مثل هذا الحديث، داخل في توحيد الربوبية الذي لم ينازع في إثباته حتى مشركو زمان النبي ، أفيخص بالحديث ؟ فالجواب: نعم، بيد أن الإشراك في توحيد الربوبية، قد داخل فئاما من الناس في القديم وفي الحديث، ففي الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس قال: ((أتدرون ماذا قال ربكم؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلكم مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب))[4].
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ، أليس هذا حديثا عن توحيد الربوبية؟ بلى وربي، ومع ذلك حذر النبي من الوقوع في الشرك فيه، بل لقد وقع ثلة من الناس في براثن هذا الشرك في عصرنا الحاضر قصدوا أو لم يقصدوا، فأخذوا يلجؤون إلى المشعوذين والدجاجلة الأفاكين، بقايا مسيلمة الكذاب وابن صياد من مدعي علم الغيب بالكهانة والتنجيم وقراءة الأكف والفناجين والذين يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين، ومسترقي السمع من السماء، فيقرقرونها في آذانهم كقرقرة الدجاج، فيخلطون مع ما يصدقون فيه مائة كذبة، ومما يزيد القرح، ويشعل المد أن لهم رواجا في أوساط الناس، في بقاع شتى من هذه البسيطة، وفي جانب عظيم من جوانب توحيد الربوبية، ألا وهو علم الغيب، الذي استأثر الله بعلمه فلا يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب، إلا بما يوحي إليهم ربهم.
بل لقد امتد القصور في توحيد الربوبية على غرار ما جاء في حديث زيد بن خالد الآنف الذكر، إلى ما يطلعه العالم في حياته اليومية، عبر الأثير المسموع والمرئي، في تفسير الظواهر المتكررة من زلازل وفيضانات ومنخفضات جوية ومرتفعات ورياح وبراكين، تفسيرا ماديا بحتا مبتوت الصلة بالله ومشيئته، مستقى من فلسفات يونانية وأخرى إغريقية قررها ملاحدة، ولاقت رجع الصدى من قبل بعض المسلمين المعجبين بما عند الغرب.
بل لقد جاوز الأمر قنطرته بمطالعات الصحافات المتكررة في أقطار شتى عما يسمى: مستقبل الأبراج، وما لها من آثار مكملة في شرخ توحيد الربوبية وربط المسلم بالأسباب المادية الجافة، أو التعبير من قبل بعض ضعاف النفوس، في الاهتياج بما يفرحه بقوله: "من حسن الطالع أن كاد الأمر كذا" وبما يسوئه بقوله: "من سوء الطالع كذا…".
فأصبحوا يتناوشون الطوالع والأبراج، يبحثون عن سعادتهم في برج الميزان، وينأون بأنفسهم عن أن يكونوا من أهل برج العقرب، وهكذا تحيا الخرافة، ويتجدد مذهب مسيلمة وابن صياد، فالله المستعان، ولقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله ـ أن علي بن أبي طالب عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له منجم فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، وإنك إذا سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك، فقال : ((بل نسافر ثقة بالله وتوكلا على الله وتكذيبا لك))، فسافر فبورك له في ذلك حتى قتل عامة الخوارج.
ومثل ذلك، ما فعله المنجمون الأفاكون مع الخليفة المعتصم، حينما أراد فتح عمورية، استجابة لصرخة امرأة مسلمة، فنهوه أن يغزوهم قبل أن ينضج التين والعنب، فرد قولهم وسافر، فأكذب الله المنجمين وأعز المسلمين وسار بتسعين ألفا كآساد الشرى، نضجت أعمارهم قبل أن ينضج التين والعنب.
ولذا فقد كان المسلم مأمورا بالفأل ونبذ التطير، في سائر شؤونه ومنها السفر.
ولقد ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)) [رواه أبو داود][5].
ولأحمد من حديث ابن عمروا قال :قال رسول الله : ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) [6].
فانظروا ـ عباد الله ـ كيف وقع بعض الناس أسارى في هذا الشرك فوطئتهم هوته بكلكلها، وتمعكت عليهم بكواهلها، فأصبحت نفوسهم بذلك ساجية مقهورة وفي حكمة الذل منقادة أسيرة، حتى صيروا أنفسهم في حوزة خشناء، يغلظ كلامها، ويخشن مسُّها، ويكثر العثار فيها، فلا جرم أن المتخلص منها بعد الإدمان فيها كراكب الصعبة من الإبل إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم، فيمنى لعمر الله بخلط وخبط، حتى لا يرى في عينه إلا القذى[7] وليس في حلقه إلا الشجا[8]، إلا بعون من الله ورضوان، فمن وفق للتوحيد رزق التسديد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
[1] صحيح البخاري ح (1804)، صحيح مسلم ح (1927).
[2] صحيح البخاري ح (7121).
[3] الجُلَّى : الأمر العظيم ، جُلَل. (القاموس ، مادة جَلَل).
[4] أخرجه البخاري ح (845)، ومسلم ح (71).
[5] سنن أبي داود ح (3919). قال المنذري في مختصر سنن أبي داود (5/379): عروة ـ هذا ـ قيل فيه: القرشي، كما تقدم، وقيل فيه: الجهني، حكاهما البخاري، وقال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة له تصح. وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس، فعلى هذا يكون الحديث مرسلاً. انتهى كلام المنذري.
[6] صحيح، مسند أحمد (2/220).
[7] القذى: ما يسقط في العين والشراب (مختار الصحاح ، مادة قذى).
[8] الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه (القاموس ، مادة شجو). |