أما بعد:
فاعلموا أيها الناس، أن الدين الإسلامي كغيره من الشرائع السماوية التي أرسل الله الرسل من أجلها، دين مبني على الاتباع والاقتداء والتأسي. ولا يصير الدين دينا إلا إذا كان الخضوع فيه للحق ـ سبحانه ـ؛ حيث إنه لا يفهم دين بلا خضوع ولا اتباع.
وإن خير هدي ينتهجه المفلحون، وخير طريق يسلكه الصالحون، هو هدي رسول الله ، والطريق الذي رسمه للأمة في كل اتجاه، فلا هدي أحسن من هديه، ولا طريق أقوم من طريقه، وهيهات هيهات أن يأتي الخلف في أعقاب الزمن، بخير مما كان عليه السلف الصالح في عصور النور.
ومن غربة الدين، أن تلتصق به المحدثات، والمسلم الحصيف يتجه نحو المعين الصافي، يشرب منه فيرتوي، ويقصد مصدر النور، يقتبس من إشعاعه فيهتدي، وإن النور لا يتم إلا بهدي الله وكتاب الله وحكم الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ [البقرة:138].
أيها الناس، إن عصر المسلمين الحاضر، يعد عصر تجدد وانتقال، كما كانت عصور المسلمين الأولى، إبان اختلاطهم بالحضارات الفلسفية والثقافات الإغريقية، حين أخذوا من أهلها وأعطوهم؛ فاختلط الناس بالغازين، وبأفكارهم الأجنبية عنهم؛ فجنحوا إلى شرعة الغير، إذْ وافقت أهواءهم، واشرأبت لها شهواتهم ورغباتهم.
وتمثل ذلك جليا في أخذ أهل تلك العصور من المسلمين بما وضعه قادة الغزاة التتر، فيما أسموه بالياسق، الذي قال عنه ابن كثير ـ رحمه الله ـ: (وفيه أن من زنى قتل محصنا أو غير محصن، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه بغير إذن أهله قتل) إلى غير ذلك من البدع الكفرية والترهات البشرية، المخالفة لمنهج الله وشرعته.
في عصور الانتقال، تتعدد مسالك الحياة، وتتزاحم المذاهب الدخيلة، والدعوات الدعية، ومكان السنة بين هذه الدعوات والمذاهب، أنها دعوة كمال، فكلما تردد الإنسان بين طريقين، دعته السنة إلى خيرهما، وإن تردد العقل بين حق وباطل، دعته السنة إلى الحق، وبهذا يعلم أن دعوة السنة، كانت لأصعب الطريقين، وأشق الأمرين بالنسبة لأهواء البشر، وسبب ذلك هو أن الانحدار مع الهوى سهل يسير، ولكن الصعود إلى العلو صعب وشاق، وإن الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، ولكنه لا يصعد إلى العلو، إلا بالجهد والمضخات.
إن إبليس ـ عليه لعائن الله ـ قد احتال بفنون الحيل على الخلق، وأمال أكثرهم عن العلم، الذي هو مصباح السالك، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل، وأدخل عليهم في دينهم من رهبانية ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، جمعت لهم الإعراض عن علم الشريعة، مع سوء الفهم للمقصود منها فحدثت منهم بدع قبيحة، وألزمهم إبليس زاوية التعبد، وأظهر لهم من الخزعبلات والطقوس ما أوجب إقبال العوام عليهم فجعل إلههم هواهم.
عباد الله، إن البدع المحدثة فيها مع سوء الظن بصاحب الرسالة تشويه لجمال الدين، وطمس لمعالم السنن، وحيلولة بين الناس وبين دينهم الصحيح، والحكم الفصل في ذلك، هو الوقوف عند السنن، ورد الأمور إلى حكم الله وحكم رسوله وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وكل سبيل غير صراط الله، عليه شيطان يدعو إليه فيحببهم في البدعة، ويبعدهم عن السنة وهي مرحلة من مراحل الشيطان، التي يتدرج بها مع المسلم؛ حيث يدعوه إلى شبهات من الابتداع زيادةً ونقصا في الاعتقاد والعمل، والمتورطون في ذلك من الأمة كثير، وللشيطان في ذلك جولات وانتصارات، إما بأن يعتقد العبد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله، من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين، التي لا يقبل الله منها شيئا.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وهاتان البدعتان، في الغالب متلازمتان، قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال؛ فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجؤهم، إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله ـ تعالى ـ.
قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يرجع منها، والبدعة لا يرجع منها.
أيها الناس، قال رسول الله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)).
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، فكل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. قال النووي ـ رحمه الله ـ: هذا الحديث، مما ينبغي حفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك.
وأهل السنة والجماعة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، استقر كتاب الله وسنة رسوله في سويداء قلوبهم، فمراد الله ومراد رسوله عندهم، قد خلدا بهذين الوحيين، فلا تعقيب لأحد بعد الله ورسوله، ولا يزالون منذ فتحت للفهم عقولهم، ووجه شطر العلم طلبهم، ينظرون في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، إلى أن من عليهم الرب الكريم، فشرح لهم من معاني الشريعة، ما لم يكن في غيرهم، وألقى في نفوسهم أن الدين قد كمل، وأن السعادة فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان. وأن العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وما سواها فأوهام وخيالات، تندرس بها سنة الرسول، حتى تمد البدع أعناقها، فيشكل مرماها على جمهور المصلحين.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
قال حذيفة بن اليمان : (كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تعبدوها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالا)، وقال مالك بن أنس: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة :3]. فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا).
وصدق رسول الله إذ يقول: ((ما من نبي بعثه الله ـ عز وجل ـ إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن يحذر أمته من شر ما يعلمه لهم)) [رواه مسلم].
أيها المسلمون، قال رسول الله : ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) [رواه أبو داود والترمذي].
والبدعة هي ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وهي تؤخذ في الغالب تقليدا لشيخ معظم، أو والد محترم، أو مجتمع تقدس عاداته، أو أفكار تستحسن، أو مبادئ تستورد، وما وفد على الأمم الممزقة الحائرة، من دخل وابتداع، كان نتاج التقليد الأعمى، والانقياد الأرعن، الذي أدخل عليهم ما شاء الله أن يدخل، من البدع والأهواء.
والبدع سريعة الانتشار، تنجم كقرون المعزى، تستلفت أنظار الدهماء فيعمى دونها الذين لا يبصرون، ويصم عنها الذين هم عن السمع معزولون، فتعود صغار البدع عندهم كبيرة، بعد أن كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها فعظمت، وصارت دينا يدان بها، فخالف أصحابها الصراط المستقيم.
ولما كثرت البدع وعم ضررها، ودام الانكباب على العمل بها، والسكوت من أهل العلم والفقه عن الإنكار لها، صارت وكأنها سنن مقررات، وشرائع محررات؛ فاختلط المشروع بغيره، والتبس بعضها ببعض إلا على من عصمه الله، مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم، فاقد المساعد إلا ما شاء الله، ينحو منحى عمر بن عبد العزيز ؛ حيث يقول: (ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره).
فرحم الله الخليفة ابن عبد العزيز؛ إذ التنبيه على البدع، أمر لا سبيل إلى إهماله، ولا يسع أحدا ممن له منّة، إلا أن يأخذ بالحزم والعزم المشوبين بالحكمة والموعظة الحسنة، في بثه بعد تحصيله، وإن كره المخالف، فكراهيته لا حجة فيها على الحق ألا يرفع مناره، وألا تكشف وتجلى أنواره.
قال سيد التابعين أويس القرني ـ رحمه الله ـ: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يدعا للمؤمن صديقا؛ نأمرهم بالمعروف، فيشتمون أعراضنا، ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى والله رموني بالعظام، وايم الله، لن أدع أن أقوم فيهم بحقه).
وقال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ: (إن السلف ـ رحمهم الله ـ تشتد ألسنتهم على أهل البدع، وتشمئز قلوبهم منهم، ويحذرون الناس بدعتهم، ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك سترا عليهم، ولا يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جاهروا، فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله رحمة، يعتصم بها على مصر ملحد).
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا البدع، صغيرها وكبيرها، واعلموا أن من ابتدع بدعة في الإسلام فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25]. قال رسول الله : ((من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا)) [رواه مسلم].
وقال : ((ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)) [رواه مسلم].
فليتق امرؤ ربه، ولينظر قبل الإحداث، في أي مزلة يضع قدمه، وهو لا يدري ما الذي يوضع له في ميزان سيئاته، مما ليس في حسابه ولا شعر أنه عمله.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأقوال والأعمال والأهواء والأدواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم …
|