أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، اتقوا ربكم وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله ـ عز وجل ـ، تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة.
عباد الله، لقد كرم الله ـ عز وجل ـ، بني الإنسان على كثير من مخلوقاته وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]
كرم الله ـ عز وجل ـ بني آدم بخلال كثيرة، امتاز بها عن غيره من المخلوقات، من جماد وحيوان ونبات وجان؛ كرمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، به ترتقي الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون مناط التكليف.
العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافا بفضلها، وخوفا من ضياعها وفقدانها.
بالعقل يشرف العقلاء، فيستعملون عقولهم فيما خلقت له، كما قال ـ تعالى ـ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17]. وقال تعالى: فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ [المائدة:100]. وقال ـ تعالى ـ: إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلنُّهَىٰ [طه:128]. وقال ـ تعالى ـ: هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ [الفجر:5].
وإذا ما فقد الإنسان عقله، لم يفرق بينه وبين سائر الحيوانات والجمادات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الانتفاع. ومن فقد عقله، لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.
هذا العقل الثمين، الذي هو مناط التكليف، يوجد في بني الإنسان، من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه، ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهرا جليا، في مثل كأسة خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر وشرب مفتر، تفقد الإنسان عقله؛ فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة؛ فتشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، وينسى السكران ربه، ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه، ويقتل إرادته، ويمزق حياءه، أيتم أطفاله، وأرمل زوجته وأزرى بأهله لما فقد عقله، فعربد ولهى ولغى. وبذلك كله يطرح ضرورة من الضروريات الخمس، التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها، ألا وهي ضرورة العقل.
إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية؛ ففاقد العقل بالسكر، يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن، ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين.
عباد الله، فقدان العقل بالسكر عادة قبيحة، كانت تلازم أهل الجاهلية، عند معاقرتهم الخمرة، يقضون الليالي الساهرة، مع الأصحاب والخلان على احتسائها.
وهم مع ذلك يعدونها وسيلة من وسائل الفخر والكرم.
لقد أغرم الجاهليون بالخمرة، حاضرة وبادية، وافتخر الشعراء بمعاقرتها، وبذل المال في سبائها.
أقبل الجاهليون على الخمرة من أجل قتل الفراغ، ونسيان الفقر، فأكثر شعراؤهم القول في الخمور، على حين فترة من الرسل، فصدرت الخمرة في مطلع معلقة هي من أشهر معلقات العرب السبع، التي قيل: إنها علقت على أستار الكعبة، أنشد فيها عمرو بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
تناقل العرب والشعراء تلك المعلقة، وكأنها قرآن يتلى؛ فأخذت بمجامع الناس، وأيام العرب، حتى قال قائلهم:
ألهى بني تغلبٍ عن كل مَكْرُمَةٍ قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم
إذاً، كانت الخمرة في الجاهلية من دواعي فخر العربي وكرمه، وكان تقديمها للضيوف وجمع الفتيان لشربها مفخرة أيَّ مفخرة.
ثم يأتي رسول الله معلنا لأمته قولَه: ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) [أخرجه مسلم].
أيها الناس، ثبت في الصحيحين عن النبي في حادث الإسراء، أنه قال: إن أمة لا تحافظ على عقول بنيها لأمة ضائعة، ماذا فعل السكر بأهل الجاهلية؟ هل أعاد لهم مجدا تليدا أو وطنا سليبا؟ هل أخرجوا الناس من ظلمات الجهل والتيه ـ ((وأتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر، غوت أمتك))، وفي بعض روايات ابن جرير ـ رحمه الله ـ أن جبريل قال: ((أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل))ـ إلى نور الهدى والاستقامة؟ أيفلح قوم استفحل السكر والخمر في ديارهم جهارا نهارا؟ لا، وكلا وألف لا.
الله أكبر! إن قول جبريل ـ عليه السلام ـ يؤكد أن الأمة المسلمة الحقة، لا يمكن أن تتبع شارب خمر، حتى ولو كان رسول الله وحاشاه عن ذلك ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً لا يجتمع في الأمة لبن وخمر، بمعنى أنه لا تجتمع فطرة وخمر، فإما فطرة صالحة بلا خمر، وإما خمر وتيه بلا فطرة. قال رسول الله : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) [رواه البخاري ومسلم].
عباد الله، إن الخمر التي كانت من مفاخر الجاهلية ومن تقاليدهم المألوفة، جاء الإسلام بإلغائها، وخلص الجماعة المسلمة من رواسب الخمرة، بعد أن رسخ دعائم التوحيد والعقيدة في نفوسهم، وأخرجهم من عبادة العباد وعبادة الشهوة والجسد، إلى عبادة الله وحده. وأخرج كثيرا من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من منادمة الخمرة، فصقلهم الإسلام صقلا هجروا بسببه كل عادة تغضب الله ورسوله.
فها هو حسان بن ثابت يقول عن الخمر في الجاهلية:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما يهنينا اللقاء
فلما خالط الإسلام قلبه، صار شعره أشد على نحور المشركين من وقع النبل، كما قال ذلك رسول الله. [أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح].
وهذا أبو محجن الثقفي ، الذي اشتهر بالخمرة في جاهليته، وهو الذي ينسب إليه قوله:
إذا مـت فادفني إلى جنب كرمة تروّي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفننـي بالفـلاة فـإننـي أخـاف إذا مـا مت ألاّ أذوقهـا
فلما تمكن حب الله ورسوله من قلبه أبلى بلاء حسنا في القادسية، وقال له سعد بن أبي وقاص لا حبستك في الخمر بعدها أبدا، فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبدا، فنعم الإسلام هاديا ومؤدبا.
أيها الناس، إن رذيلة المخدرات والمسكرات آفة خبيثة، لم تفش في عصر من العصور كما فشت في عصرنا الحاضر، ولم تصب المجتمعات بحمى السكر التي شنها أعداء الإسلام على جميع بلاد المسلمين، بهدف تخديرهم، وإهدار طاقاتهم، وشل جهودهم، وتغييب عقولهم علنا، كما أصيبت في هذا العصر.
لقد قام أعداء الإسلام، بزج كميات مخيفة من جميع أصناف المخدرات، إلى بلاد المسلمين حسدا من عند أنفسهم، يريدون للأمة المسلمة أن تتورط بهذه السموم، فلا تخرج منها إلا بعد لأي وشدائد، وتعب مضن، وتوبة صادقة.
وقع جمع من الناس في براثنها، ورضعوا من أثداء المخدرات والمسكرات؛ فنقضوا بناء المجتمعات ونثروا أعضاءها، وبددوها شذر مذر، نفخت روح الحضارة العصرية في بعضهم نفخة كاذبة، وخيلت إليهم أنهم خلق وجيل، مغاير لما مر من الأجيال في التاريخ كله، زعم المتفننون منهم، أنهم خلق لا تنطبق عليهم سنة، ولا يخضعون لسابقة، رأوا في عصر الذرة، وعصر المعلومات، فقالوا للناس أجمع: أما علمتم أن الدنيا دخان وكأس سكر وغانية؟!.
أمة الإسلام، كم من الآلاف في أمتنا، يعكفون على المسكرات والمخدرات، يهلكون أنفسهم عن طريق هذه الكيوف السامة القتالة، فأخذوا يزهقون أرواحهم، ويحفرون قبورهم بأيديهم حتى صاروا أشباحا بلا أرواح، وأجساما بلا عقول.
أيها المسلمون، إن للمسكرات والمخدرات مضارَّ كثيرةً أثبتها الطب العصري، وأكدتها تجارب المجتمعات، وذكروا فيها أكثر من مائة وعشرين مضرة، دينية ودنيوية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله" .أ.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.
ومن أعظم مضار المسكرات والمخدرات، أنها تفسد العقل والمزاج. وما قيمة المرء إذا فسد عقله ومزاجه؟ يتعاطى المسكرات والمخدرات، فيرتكب من الآثام والخطايا، ما تضج منه الأرجاء، وما يندم عليه حين يصحو، ولات ساعة مندم، ولقد روى القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره، أن أحد السكارى جعل يبول، ويأخذ بوله بيديه ليغسل به وجهه وهو يقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.
قال الضحاك بن مزاحم ـ رحمه الله ـ لرجل: ما تصنع بالخمر؟ قال: يهضم طعامي. قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: لو كان العقل يشترى، لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده!
أيها الناس، في بلاد المسلمين، كثرت حوادث المخدرات، من مروجين ومدمنين، وكثرت الجرائم بتعاطيها، وأصبحت مكافحة المخدرات قضية تشغل الحكومات المختلفة. وكل هذا يتم في غياب وازع الإيمان.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا المسكرات المخدرات، واتقوا الخمر فإنها أم الخبائث.
أخرج النسائي وابن حبان في صحيحه، أن عثمان قام خطيبا فقال: (أيها الناس، اتقوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، وإن رجلا ممن كان قبلكم من العباد، كان يختلف إلى المسجد، فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل. فأغلقت الباب، وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صحت، تعني: صرخت، وقلت: دخل علي في بيتي، فمن الذي يصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسا من الخمر. فقال: زيديني. فزادته، فوالله ما برح، حتى واقع المرأة وقتل الصبي).
قال عثمان : (فاجتنبوها، فإنها أم الخبائث، وإنه ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل، إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر).
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاْنصَابُ وَٱلاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91].
|