أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أيها الناس، قبل نبوة المصطفى بعشرات السنين، كان الناس في هذه البسيطة، على فترة من الرسل، منقطعين عن المدد الروحي من السماء الذي كانت تعان به الأرض وأهلها، على اجتياز ظلمات المادة، وفسق المادة، وجفاف المادة، فخبّط الناس في مآرب الحياة ودربها خبط عشواء، في ظلمات ثلاث، ظلمة العقائد، وظلمة القوانين البشرية، وظلمة الأنفس.
ظلمة العقائد، لا يجد فيها الحاذق بصيص نور يهتدي به إلى هداية، أو يخلص به من ضلالة؛ فاستبد الأحبار والرهبان بقلوب الناس وعواطفهم.
وظلمة القوانين، لا يجد فيها عاقل ما يعين على عدالة، أو ما يخرج من مظلمة؛ فاستبد العظماء بأموال الناس وظهورهم، فالظلم عندهم، من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة منهم، فلعله لا يظلم.
وظلمة الأنفس لا يجد فيها المتأمل مكانا لرحمة، أو نورا يضيء ظلمة، إلا من رحم الله .
فما زالت الإنسانية، تتخبط في هذه الظلمات الثلاث، وتنحدر إلى هاوية سحيقة، حتى تمخضت عن أمم كان من قسوتها وفظاعتها أن تقتل بنيها شر قتلة، مخافة أن يشاركوهم في مأكلهم أو ملبسهم، قال ابن عباس : إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ قول الله: قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:140].
وكان من عقلها ودينها أن تصنع معبوديها بأيديها، ومن مجدها التي تتغنى به الحذق في انتزاع الأرواح، والمهارة في إيتام الأطفال، وإرمال النساء، وإثكال الأمهات والآباء، حتى لقد صدق قول الله فيهم: أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ [الأعراف:179].
بعد هذا التخبط المقيم، يبعث الله الرسول الأمي نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلَـٰمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
بعثه في الأرض؛ فهزم كل ما أمامه من الظلمات الثلاث: ظلمة القوانين، وظلمة العقائد، وظلمة الأنفس. وما استطاعت ظلمة من هذه الظلمات الثلاث، أن تثاقفه أو توقفه، حتى صار لهذا الدين أنصار وقادة يحملونه في إحدى اليدين، وفي الأخرى يحملون الحديد ذا البأس الشديد، يذودون عنه الإيذاء والاعتداء، ويخلون له الطريق إلى القلوب والعقول، فما أجمل الحق، يعرضه القوي في لين! وما أجمل القوة، تنصر الحق في شجاعة!
حمل هذا الدين رجال وقادة، علمهم نبيهم أن لا يخاف العبد إلا ربه، وأن لا يذل، إلا لمن ذل له كل شيء وخلق كل شيء، ولمن بيده أسباب الخوف وأسباب الأمن وحده فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. وعلمهم نبيهم، أن لا يتأخر عن الموت من طلب الحياة وأحبها، فإن من رغب في الموت وهبت له الحياة. قال أبو بكر : (احرص على الموت توهب لك الحياة).
كانوا يُقدِمون على الموت، إقدام من ليست حياته ملكا له، فأخذوا بنواصي الأكاسرة، وهامات القياصرة، وذروا التراب على وجوه الطغاة، الذين طالما جَرَّعُوا الإنسان جُرَع الذل والهوان، وأذاقوه غصص الخسف والاستبداد.
عباد الله، قال الله ـ تعالى ـ: وَتِلْكَ ٱلاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران:140].
وقال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلارْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ [البقرة:251]. المدافعة بين الإسلام والكفر، ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعب فقد هذا الدواء على مر التاريخ فقد الحياة ولا محالة، فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقساما، بين أشتات المطامع والأهواء.
أيها الأحبة في الله، يخطئ كثيرا، من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر، كانت بدعا في تاريخهم الطويل، كلا؛ فالأمر ليس كذلك؛ بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، ويهبط أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله. قال رسول الله : ((من لم يغز أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) [رواه أبو داود وابن ماجه بسند جيد. والقارعة: هي الداهية].
لذا، فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضت، حتى اغتصب الحجر الأسود بضع سنين، فما عاد إلى موضعه: إلا بعد لؤى وشدائد.
ولكن هذا التاريخ الذي هبط، سرعان ما علا وارتفع، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين، يتأرجح بين مد وجزر، في صورة حقيقة لا ينكرها إلا غِرٌّ مكابر.
أيها المسلمون، إن المناظر في واقع العالم اليوم، إن كان ذا لب وبصيرة، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم، إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه اليوم بالأمس! فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة في معسكرات الكفر، بحيث لا تفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفاً ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكنا، حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله – إن كان ذلك، هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين؛ فإن أسلوبهم في هذا العصر، ينطلق من محاور متعددة، أورثت لدى المسلمين جبنا وخورا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وانطلقوا يغزونهم في عدة ميادين، تمثلت في إذكاء التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي والصحفي، والتحدي الثقافي، في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية والإعلامية وإثارة الحروب الأهلية، والنعرات الطائفية، إنها حرب شعواء، لا هوادة فيها.
إن أهل الكفر، هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيا عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو القوانين الخاصة أو العامة أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبون حقا، هو ذلك الضعيف المهزول، الجاثي على ركبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقه، ويسألها إنصافه ويطلب إليها بمدمعه لا بمدفعه، أن يمسح الدم عن أظافيره الدامية، ويطهر فمه من لحوم الضعفاء الأبرياء، ويناديه باسم المدنية، وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة، لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم. أما الضعيف العاجز عن المدافعة، فما له عندهم إلا التمدين، زعموا، ومعناه: التطبيع، وسائر ما للبؤس والشقاء من مظاهر ومعان.
كل ذلك أيها المسلمون مصداق لقول المصطفى : ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أو من قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) [أخرجه أبو داود وأحمد، وهو صحيح].
هجمت عليهم الدنيا فتنافسوها؛ فقلبت موازين الحياة عندهم، نسوا قول الله وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]. ونسوا قول الله ـ تعالى ـ: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران :175]. وقول الله ـ عز وجل ـ: إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
ونسوا قول المصطفى : ((إذا تبايعتهم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [رواه أبو داود، وأحمد بنحوه، وهو صحيح].
انقلبت موازين الحياة عندهم، فأخرجت سنة المدافعة من النفوس، ظنوا أن الشجاع المقاتل يقتل دون الجبان المسالم، المقر للخسف في دينه وملته وأرضه، حسبوا أن الجبناء أطول آجالاً من الشجعان فقالوا:
يقرب حب الموت آجالنا وتكرهه آجالهم فتطول
ولأجل هذا، كان من يحرصون على الحياة، يهرعون إلى السلم والمسالمة. والحقيقة الواضحة أيها المسلمون على العكس من ذلك، فإنه لا يقتل غالباً إلا الجبان، ولا يقع في الحرب إلا الهارب إلى السلم، ولا ينال الشر إلا أهل الدعة واللين والخوف.
عباد الله، إن الإرهاصات المتتابعة، التي أذكاها أهل الكفر والشرك لم تذهب سدى، فنحن نرى بين الفينة والأخرى نفوسا ضعيفة، وأقلاما مأجورة، ترعرعت في كنف الكفر، فأخذت تبث دعايات مضللة، مفادها هدم ركن ركين، وأصل أصيل من أصول الإسلام، ألا وهو ركن الولاء والبراء، الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الولاء والبراء، الذي هو من لوازم كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))، ذلك اللازم المؤكد في قول الله ـ تعالى ـ: لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28].
وفي مثل قوله: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
وفي مثل قول المصطفى ، لجرير بن عبد الله البجلي لما بايعه على الإسلام قال له: ((أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر)) [رواه أحمد بسند حسن].
قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ [النحل:36].
قال العالم المجدد، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: فأما صفة الكفر بالطاغوت، فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم.
وذكر ـ رحمه الله ـ من نواقض الإسلام: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم كفر. قال الله: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [المائدة:51]. وقال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)) [رواه مسلم].
أيها الناس، هذا الركن الركين والحصين، مالت نفوس ضعيفة، اجتالتها الشياطين عن فطرة التوحيد، مالت بهم إلى نبذه من واقع حياتهم، فيما يسمونه بالعالمية، أو زمالة الأديان أو التطبيع بين الكفر والإسلام، ومعنى تلك المسميات كلها، هو توسيع دائرة الولاء؛ بحيث يدخل فيها كل الأقوام والأديان والأوطان، حتى يصبح المسلم لا يشعر بالفارق بينه وبين غيره من الكفار في بقاع الأرض، وقد يطغى على هذا المبدأ، ألفاظ براقة خادعة، كالحرية والإخاء، والعدل والمساواة، وبذلك يطمس الولاء والبراء، وتُشْعَرُ ذروة سنام الإسلام، وهي الجهاد في سبيل الله، وقد ذم الله هذا الصنيع وحذر منه بقوله: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا [الأعراف:86].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وعودوا إلى دينكم عودا حميدا، اتقوا الله والتفتوا إلى واقعكم، انظروا إلى دماء الأبرياء من بني ملتكم، تصرخ ولا مغيث، إن ضعف المسلمين واستكانتهم جعلت من دم المسلم عملة رائجة في سوق سوداء، لا تخضع لنظام، ولا يحميها قرار.
أيها المسلمون، استمعوا إلى نصح ربكم في قوله: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـٰتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلاْنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
بارك الله لي ولكم…
|