أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، فتقوى الله ـ تعالى ـ هي وصيته للأولين والآخرين وَللَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].
أيها الناس، من أجل التوحيد بني بيت الله العتيق، الذي رفع قواعده إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل ـ عليهما السلام ـ، وما برح هذا البيت العتيق، يطاول الزمان، وهو شامخ البنيان في منعة من الله وأمان، تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه، ففي جواره التوحيد، وفي رحابه الأمن والخير والبركة وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ [الحج:26]. وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:35، 36].
لقد أرسل المصطفى بنور ساطع وضياء لامع، أضاء به الطريق وأوضح به السبيل، طهر الله به جزيرة العرب من رجس الوثنية، وهيمنة الأصنام، وكان كبير الأصنام هبل، بأعلى مكة، وحوله ثلاثمائة وستون صنما، كلها من الحجارة، فطعن فيها المصطفى بيده الشريفة، حين دخوله الكعبة يوم الفتح، وهو يردد قول الله: وَقُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]. وبعض المسلمين كان يردد: يا عزى كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك.
وفي الحج أيها المسلمون، معانٍ كبيرة من معاني التوحيد، تمثلت في منع المشركين من دخول المسجد الحرام يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا [التوبة:28].
وبعث المصطفى سنة تسع، من ينادي: ((ألا يطوف بالبيت عريان، وألا يحج بعد العام مشرك)) [متفق عليه].
وتمثل التوحيد في الحج، في رفع الأصوات بالتلبية ونفي الشريك عن الله ((لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك)) وبهذه التلبية، قضى المصطفى على تلبية أهل الشرك، التي كانوا يرددونها إبان حجهم ويقولون: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
لقد تمثل التوحيد في الحج في ركعتي الطواف، حين يقرأ المسلم في أولاهما بـ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ [الكافرون:1]. وفي الأخرى بـ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1]. كما تمثل التوحيد في الحج أيضا، في خير الدعاء، وهو دعاء يوم عرفة حينما قال : ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) [رواه الترمذي].
وتمثل التوحيد في الحج فيما شرعه الله من ذكره وحده، يوم العيد وأيام التشريق وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ [البقرة:203]، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200].
أيها الناس، إن التوحيد الخالص، هو لباب الرسالات السماوية كلها، وهو عمود الإسلام، وشعاره الذي لا ينفك عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نغار عليها، ونصونها من كل شائبة فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ [النحل:36].
والطاغوت هو: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم، من يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه ليس من طاعة الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:60]. وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ [البقرة:257]. أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ [النساء:51].
عباد الله، على كلمة التوحيد الجليلة، بنى المصطفى أمته، وأقام دعوته وشيد صرحها، وأنشأ جيلا يوحد الواحد الأحد، ويبرأ من كل الشركاء المزعومين، فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي الحادي الذي لا يمل نداؤه، ولا يتلاشى صداه، وعندما يرددها الموحد، فهو يقصد أمرين عظيمين:
أولهما: إحقاق الحق وإبطال الباطل ؛ لأن معنى الكلمة: لا معبود بحق إلا الله، فكل ما خلا الله، فهو باطل، وما هو إلا وهم عقول مختلة، أو خداع حواس معتلة.
وثانيهما: ضبط السلوك البشري، داخل نطاق هذا التوحيد الخالص المنبثق من كلمة التوحيد، المشروطة بسبعة شروط، متمثلة في العلم بمعناها وهو أنه: لا معبود بحق إلا الله، ومتمثلة كـذلك، في اليقين المنافي للشك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والقبول المنافي للرد، والانقياد المنافي للترك، والمحبة المنافية للبغض، وباجتماع ذلك، تتوحد العبادة بكل صورها، بحيث لا تكون إلا لله، فلا استنصار إلا بالله، ولا توكل إلا على الله، و لا رغبة ولا رهبة، ولا خوف و لا رجاء إلا بالله ومن الله، ومن ثم، يشعر الموحد من أعماق قلبه، أن ما دون الله هباء، فلا تروعه سطوة ساط، ولا تخدعه ثروة غني، ويستحيل عنده أن يغلب الله على أمره، أو أن يقطع شيء دونه، فالتعلق بغير الله عجز، والتطلع إلى سواه ضلال لاحق وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأمْرُ كُلُّهُ [هود:123].
ومن هنا، يظهر الفرق شاسعا بين الموحد وبين المشرك، فالموحد عرف خالقه، فعبده حق عبادته، والمشرك مكفوف البصيرة، تائه عن ولي نعمته، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
أيها الناس، التوحيد في القديم وفي الحديث، أوله الناس بتعدد الآلهة وهي المعبودات، وتعدد الآلهة خرافة هزيلة، لفظها الإسلام بقوة، ونبذها نبذ المسافر فضلة الأكل، وتتبع أوهام الناس فيها وهما وهما، فكشف الظلمة ودحض الشبهة، ولا عجب، فالتوحيد الخالص، شعار الإسلام الأول، في ميدان الاعتقاد والعمل، به عرف ومن أجله حورب، وعليه دار جدل طويل بين أهل الحق وأهل الباطل: إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَـٰرِقِ [الصافات:4، 5]. مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91].
إن التوحيد الخالص، هو أفضل طلبة، وأعظم رغبة، وأشرف نسبة، وأسمى رتبة، هو وسيلة كل نجاح، وشفيع كل فلاح، يُصيِّر الحقير شريفا، والوضيع غطريفا، يطول القصير ويقدم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما شيد ملك عتيد إلا على دعائمه، ولا زال إلا على طواسمه، ما عزت دولة إلا بانتشاره، ولا زالت إلا باندثاره.
وإن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام، وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، وما تسلط من تسلط من الأعداء، وتعجرف من تعجرف، وغار من غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم، واستباح حرماتهم، وأيم نساءهم، ويتم أطفالهم، إلا بسبب ضعف التوحيد، وما هجم التتار على ديار الإسلام، وفعلوا بهم ما فعلوا، إلا بفقد التوحيد، بل لقد بلغ ضعف التوحيد في النفوس مبلغا عظيما إبان الهجوم التتري لبلاد الإسلام، حتى لقد قال بعض المسلمين من الهلع والجزع: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر، عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
أيها الناس، يعيش المسلمون في زمان، هرم خيره، شباب شره، نائم رشاده، صاحٍ فساده، قليل منصفه، كثير متعسفه، أفلت فيه شمس التوحيد ونجمه، ودجا فيه ظلام الشرك وظلمه؛ فتقدم متأخره، وتأخر متقدمه، تلاعبت بأهله الأهواء، ومزقت جماعتهم النحل والآراء، ركب كل منهم هواه، وكافح فصادموا المنقول، وخالفوا المعقول، فاخر ضُلاَّلُهم بما يبرزون من الضَّلاَل، ويبدعون من الزيغ، وصار الشجاع العاقل هو المجاهر بالغرائب والمصائب، والأديب الملهم هو الداعي إلى البدع المضلة، فعظم الويل، واتسع الخرق، واغتلم الداء، وأعوز الدواء.
هم قوم أزياؤهم أزياء الأناسي، وصورهم صور العقلاء، ونفوسهم نفوس العجماوات، وأخلاقهم أخلاق الطير، يتهافتون على الغفلة، تهافت الفراش على النبراس، ويأرزون إلى النقيصة، أروز الدود إلى الميتة، مع قرم وجعم، واحتدام وضرم، بهؤلاء وأمثالهم، ولدت أم الغباء، وعقمت أم الذكاء وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ [الأعراف:179].
لقد ابتلي كثير من الناس بالجهل بالتوحيد؛ فانحازوا إلى أصحاب القبور، والتجؤوا إليهم، وتضرعوا أمام أعتابهم، فقبلوها وتمسحوا بها، واستغاثوا بأهلها في الشدائد والكروب، بل لقد كثر مروجوها والداعون إليها، من قبوريين ومخرفين، الذين يخترعون حكايات سمجة عن القبور وأصحابها، وكرامات مختلقة، لا تمت إلى الصحة بنصيب، والذين ينشدون القصائد الطافحة بالاستغاثات والنداءات، التي لا تصلح إلا لفاطر الأرض والسماوات، بل لقد طاف بعض الناس بالقبور كما يطاف بالكعبة المعظمة، وأوقفوا الأموال الطائلة على تلك الأضرحة، حتى إنه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين، أموال تعد بالملايين، ولقد أحسن القائل:
أحياؤنا لا يُكْرَمُون بدرهم وبألفِ ألف يكرم الأموات
لقد قصر أناس مع التوحيد ؛ فتقاذفتهم الأهواء، واستولت عليهم الفتن والأدواء، فمن مفتون بالتمائم والحروز، يعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر، وتذهب بالعين، وتجلب الخير، والله ـ تعالى ـ يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـٰشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
وقد رأى النبي رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ((ما هذا؟ قال من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)) [رواه أحمد بسند لا بأس به].
ولأحمد أيضا، عن النبي أنه قال: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)). وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)).
وإن من المسلمين من قد افتتن بالمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، بدعوى أنهم يكاشفونهم بأمور الغيب، فيما يسمى مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا الناس على حد زعمهم، عما سيحدث في العالم، خلال يوم جديد، أو أسبوع سيطل، أو شهر أوشك حلوله، أو عام مرتقب قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وٱلأرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]. قال رسول الله : ((من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [رواه الأربعة والحاكم].
وإن من الناس يا عباد الله، من هو مفتون بمستقبل الأبراج، فيمضي عاصب العينين، فاقد البصيرة، خلف قراء الأبراج، الذين يدعون أن السعادة كامنة في أصحاب برج الجدي، والغنى مستقر في أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل، إلى غير ذلك، من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ [الطور:38]. أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:41-43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
|