أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم [سورة البقرة:235].
معشر المسلمين: إن بذل النصيحة للمسلمين من إرشادهم إلى الحق المبين، وتحذيرهم من الباطل والمبطلين، يعتبر من الدين، قال النبي : ((الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )). قال الخطابي – رحمه الله -: النصيحة كلمة جامعة معناها: ((حيازة الحظ للمنصوح له)).
أيها المسلمون: لا شك أن الإنسان معرض للخطأ والميل عن الحق والصواب، فقد جاء في الحديث: ((كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون))، ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يبصره بعيوبه وأخطائه، وأن ينصح له في أمره وشأنه، لكن ينبغي أن يكون النصح برفق وحكمة، وليحذر المسلم من احتقار أخيه واتهامه بمجرد الظن، فإن الظن أكذب الحديث، وكفى به شرا قال النبي : ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)).
فإذا سمعت – أيها المسلم – عن أخيك المسلم شيئا تكره فلا تبادر إلى تصديق ما يقال لك عنه؛ بل يجب عليك أن تتثبت حتى تستيقنه، فإن كثيرا من الناس اعتاد إشاعة السوء بالباطل، وكثيراً منهم من إساءة الظن عنده أسرع من حسن الظن، فلا تصدق كل ما يقال، ولو سمعته مرارا حتى تسمعه ممن شاهده بعينه، ولا تصدق من شاهد الأمر بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما شاهد، ولا تصدق من تثبت فيما شاهد حتى تتأكد من براءته من الغرض والهوى، ولذلك أمرنا الله تعالى باجتناب كثير من الظن، واعتبر بعضه إثما، فالظن ينافي العلم ولا يغني من الحق شيئا، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا [سورة الحجرات:12]. وقال عز وجل: وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً [سورة النجم:28].
وإذا رأيت – أيها المسلم – أمرا، أو بلغك عن أخيك المؤمن كلام يحتمل وجهين فاحمله محملا حسنا، فذلك أجدر بمكارم الأخلاق وصفاء الأخوة، قال عمر بن الخطاب – -: ((لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا)) .
قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وكان طلحة أجود قريش في زمانه قالت: ما رأيت قوما ألأم من إخوانك، قال لها: مه مه! ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم، فانظر كيف تأول طلحة صنيع إخوانه معه، وهو ظاهر القبح والغدر بأن اعتبره وفاء وكرما.
أيها المسلم: وإذا رأيت أخاك المسلم قد ارتكب خطأ لا مجال فيه لعذر أو شبهة، وجب عليك أن تتقدم إليه بالنصيحة سرا، بينك وبينه لا أمام الناس، فإن الإنسان لا يقبل أن يطلع أحد على عيبه، فإذا نصحته سرا، كان ذلك أرجى للقبول، وأدل على الإخلاص، وأبعد عن الشبهة، وأما إذا نصحته علنا أمام الناس فإن في ذلك شبهة الحقد والتشهير، وإظهار الفضل والعلم، وهذه حجب تمنع من استماع النصيحة والاستفادة منها، ولقد كان من خلق النبي وأدبه في إنكار المنكر وتبيين الحق، أنه إذا بلغه عن أحد أو جماعة شيء مما ينكر فعله لم يذكر أسماءهم علنا، وإنما كان يقول: ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا))، فيفهم من يعنيه الأمر أنه هو المراد بالنصيحة، وهذا يعتبر من أرفع أساليب النصح والتربية.
قال الشافعي – رحمه الله -: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. فالمؤمن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المعصية التي وقع فيها، فهو يحب لأخيه ما يحب لنفسه أما الإشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله تعالى ورسوله قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [سورة النور:19]. ففرق بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة، وعقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن وتتبع عيوبه وكشف عورته أن يتبع الله عورته فيفضحه ولو بعد حين إلا أن يتوب.
أيها المسلمون: من مظاهر التعيير والتشهير: إظهار وإشاعته في قالب النصح، زاعما أن ما يحمله على ذلك هو التحذير من أقواله وأفعاله، والله يعلم أن قصده التحقير والأذى. مثال ذلك: أن تذم رجلا وتنتقصه وتظهر عيبه لتنفر الناس عنه رغبة منك في إيذائه لعداوتك إياه أو مخافتك من مزاحمته إياك على مال أو رئاسة أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا تتوصل بذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب من الأسباب الدينية أو الدنيوية، فمن فعل ذلك فإنه يدل على مرض في قلبه، وإن كان من الذين يحلفون أنهم لم يريدوا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون.
أيها المسلمون: ومن بلي بشي من هذا المكر بأن احتقر وعيب وتنقص منه فليتق الله وليصبر فإن العاقبة للتقوى: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [سورة فاطر:43].
أسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، وأن يرزقنا قلوباً سليمة، وألسنة صادقة، وعلما نافعا، وعملا صالحا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|