قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18]. لن يبلغ العبد درجة التقوى حتى يحاسب نفسه، والله تعالى يأمرنا أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا يوم القيامة حيث لا تخفى على الله خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه.
فما محاسبة النفس؟ ولماذا يحاسب العبد نفسه؟ وعلى ماذا يحاسب العبد نفسه؟
1- أما محاسبة النفس: فهو أن ينظر العبد في أعماله وأحواله وأقواله ليومه أو شهره أو سنته أو عمره فما وجد من حسنه حمد الله عليها وما وجد من سيئة أحدث لها ندماً للحديث: ((الندم توبة)). وتوبةً للحديث: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)). وعزيمةً على الترك فلا إصرار قال تعالى: ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، وللحديث: ((المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه)).
2- ومحاسبة النفس سمة المؤمن للحديث: ((الكيس (أي الفطن) من دان نفسه (أي اتهمها وحاسبها) وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)).
3- والذنب وارد ولكن لابد من التوبة للحديث: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)).
4- وأبواب السماء مشرعة أمام التائبين في كل وقت للحديث: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وأما لماذا يحاسب العبد نفسه؟:
1- حتى يخفف عنا حساب الآخرة: يقول الحسن: (المؤمن قوام على نفسه يحاسبها وإنما خف الحساب على أقوام لأنهم كانوا يحاسبون أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب على أقوام لأنهم لم يأخذوا هذا الأمر بالجد ولم يكونوا يحاسبون أنفسهم) يقول عليه الصلاة والسلام: ((من نُوقش الحساب عُذّب)) فقالت عائشة رضي الله عنها: أو ليس يقول الله تعالى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ؟ فقال: ((ليس ذلك بالحساب إنما ذلك العرض، من نُوقش الحساب عُذّب)). تتضح صورة الحساب اليسير الذي لا تدقيق فيه لدقائق الأعمال بمنه وكرمه سبحانه من الحديث: ((يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة فيضع عليه كنفه (أي ستره عن أعين الخلق) فيقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا؟ فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك فيعطى صحيفة حسناته وأما الكافر والمنافق فينادى عليه على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)).
2- والعبد يحاسب نفسه لأن الشهود كثير فإذا كان قضاة الدنيا يمكن الاحتيال عليهم بالرشوة والوساطة والنفوذ وإحضار شهود زور فإن شهود الآخرة لا يجري عليهم ذلك وأعظم شهادة هو الله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [المجادلة:7]. ثم الرسل: وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم [المائدة:117].
الملائكة: إذا يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17].
الجوارح: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [يس:65].
الجلود: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:21].
الأرض: يومئذ تحدث أخبارها . قيل: يا رسول الله ما أخبارها؟ قال: ((أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا)).
3- والعبد يحاسب نفسه لأن ألد عدو له نفسه فهي الأمارة بالسوء كما وصفها خالقها: إن النفس لأمارة بالسوء [يوسف:53]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)). فما تشتهيه نفسك هو السبيل إلى النار وما تكرهه هو السبيل إلى الجنة، فكان لابد من الرقي بها بالمعاتبة والتوبيخ واللوم فإن لم يجد فعاقبها بالإيذاء، والإيلام والحرمان حتى تستقيم على أمر الله بالدرة ويقول: ماذا قدمت اليوم؟ والأحنف بن قيس كان يضع إصبعه على النار ويقول: حس حس ألم تفعل ذنب كذا في يوم كذا؟، وعمر أشغله بستانه عن صلاة العصر فتصدق به لله تعالى، والبخاري فاتته صلاة الجماعة فصلاها سبع وعشرين مرة للحديث: ((صلاة الجماعة خير من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة)).
وآخر نازعته نفسه إلى الفاحشة فوضع يده على النار وهو يقول: (إن صبرت على نار الدنيا فأنت على سواها أصبر) فأحرق شهوته بانشغاله بإحراق يده.
وأما على ماذا يحاسب العبد نفسه؟:
1- الوقت: وقد أقسم الله بالوقت لأنه فيه تقع حركات بني آدم قال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر [العصر:1-2]. يقول الفضيل بن عياض: (يا ابن آدم إنما أنت عدد فإذا ذهب يومك ذهب بعضك). جلس توبة بن الصمة بحاسب نفسه وكان قد بلغ الستين من عمره فحسب أيامها فكانت واحدا وعشرين ألفا وخمسمائة، فقال: (لو أذنب في كل يوم ذنبا كيف ألقى الله بصحاف مملوءة بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة؟ فأغمي عليه فلما أفاق قال :وهو يعقل أن أذنب ذنبا واحدا كيف لو أذنبت عشرا أو مائة أو ألفا، كيف ألقى الله بكل هذه الذنوب فأغشي عليه فلما جاءه أهله وجدوه ميتا).
2- الأموال: في كسبها وإنفاقها: للحديث: ((من لم يبال من أين يكتسب ماله لا يبال الله من أي باب يدخله ناره)) فاحذر الحرام فإنه يفسد كل عمل صالح للحديث: ((واعلم أن اللقمة الحرام إذا وقعت في جوف أحدكم لا يتقبل عمله أربعين ليلة))، وأن تنفقها فيما يحبه الله ويرضاه فالمال مال الله ونحن مستخلفين فيه قال تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [الحديد:7]. فحبسه عن مجالات الخير جريمة للحديث: ((من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة على صورة شجاع أقرع له زبيبتان يلمزه من شدقية يقول له: أنا كنزك أنا مالك)).
3- إبراء الذمة من الحقوق: فحقوق العبيد معظمة عند الله للحديث: ((وأول ما يسأل عنه العباد يوم القيامة الدماء))، وهذا الشهيد الذي يقتل في سبيل الله في الحديث: ((يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين)). ((وكان يؤتى بالرجل كي يصلي عليه فيسأل: هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم قال: صلوا على أخيكم)). ولابد من براءة الحقوق، فرسول الله وهو في آخر أيام عمره المبارك يقف على المنبر ويقول: ((من جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليجلده لا تقولوا: فضوح، فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة)) كلمات تذيب الحجر، وفي الحديث: ((من كانت عنده لأخيه مظلمة فليتحلله منها اليوم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه درهم ولا دينار)).
4- الكلمة: لحديث معاذ: ((أو نؤاخذ على ما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم؟)).
فلا غيبة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)).