.

اليوم م الموافق ‏22/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

موانع الانقياد للشرع ودور الإعلام في عقوق الأبناء

831

الأسرة والمجتمع, التوحيد

قضايا الأسرة, نواقض الإسلام

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

19/2/1409

قباء

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

كلمة الإسلام وما تتضمنه من معانٍ , ومعناها الرئيس هو الاستسلام والانقياد لله وحده بالقلب والجوارح – لا تنفع المعرفة والإقرار بدون انقياد للدخول في الإسلام – طبيعة اليهود وموقفهم من الرسالة – الحسد والبغي أكثر أسباب الكفر , وهما تركة إبليس – الشهوات والأهواء من أشد موانع الانقياد , والفرق بين تسلطها حتى تضعف الانقياد , وبين منعها له ابتداء وتطبيق ذلك على موقف كسرى وقيصر والنجاشي من دعوته صلى الله عليه وسلم - ظاهرة العقوق مظاهرها وأسبابها والدور الخبيث لوسائل الإعلام في ذلك وأثرها على الأمة - الواجب تجاه هذا الإعلام

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد بينا أن كلمة إسلام تتضمن المعاني الآتية: الاستسلام والتسليم والانقياد والطاعة والسلامة والسلام.

أما الجانب الرئيسي من معنى هذه الكلمة فهو الاستسلام والانقياد لله وحده لا شريك له انقيادًا كاملاً يشمل انقياد القلب وانقياد الجوارح.

وبينا أنه لا يمكن الفصل بين هذين فلا يُتصور أن ينقاد القلب لله وتتمرد الجوارح. أما إذا تمردت الجوارح على أمر الله فذلك دليل على أن القلب نفسه متمرد. ويتفرع من هذا أن المعرفة وحدها ليست إسلامًا، فإذا عرف الإنسان الحق وأقربه بلسانه إلا أنه لم يتبعه وأبى الانقياد له فإن تلك المعرفة لا تنفعه عند الله شيئًا. بل وذلك الإقرار أيضًا باللسان لا ينفعه أيضًا. لا ينفعه شيئًا. بل إن الإنسان الذي عرف الحق وأبى أن يتبعه وينقاد له هو أسوأ حالاً من ذلك الذي جهل الحق فلم يتبعه، ولهذا فقد ذم الله اليهود أشد مما ذم سواهم من الكفار والمشركين، ذلك لأن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه قال سبحانه في وصف حالهم وذم حالهم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيًا أن يُنزِّل الله من فضله على من يشاء فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [البقرة:89-90]. اليهود عرفوا الرسول وعرفوا أنه النبي الذي بشرت التوراة والإنجيل وعرفوا أن ما جاء به هو الدين الحق بل وأقروا بذلك بألسنتهم إلا أنهم لم يتبعوه ورفضوا الانقياد لما جاء به حسدًا وبغيًا، بغيًا وحسدًا ممن عند أنفسهم، فإنهم إنما كانوا ينتظرون أن يُبعث هذا النبي منهم من بني إسرائيل، فلما بُعث من قريش حسدوه وعاندوه وبغوا عليه. فالمانع الذي منعهم هنا من الانقياد والاستسلام لأمر الله هو الحسد والبغي.

وهذان هما أكثر أسباب الكفر تحكمًا في البشر وتفشيًا في بني آدم، تلك تركة إبليس وسنته السيئة التي بذر بذرتها يوم أن رفض الانقياد والامتثال لأمر الله عز وجل مع علمه لألوهيته وعظمته سبحانه وأنه لابد من الانقياد لأمره دون تردد أو سؤال أو نقاش، مع ذلك كفر إبليس بعدم انقياده وامتثاله، مع توافر علمه، وسبب كفره هو الحسد والبغي قال لربه: أأسجد لمن خلقت طينًا [الإسراء:61]. ثم تمادى في حسده وبغيه فقال وهو بين يدي رب العزة فقال:    أرأيتك هذا الذي كرمت علىّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً    [الإسراء: 62].

وقد تكون الشهوات والأهواء والمصالح المتشابكة المبنية عليها قد تكون مانعًا من أشد الموانع التي تمنع الانقياد، من أشد هذه الموانع تأثيرًا في النفس البشرية. فإذا قامت الشهوات والأهواء والمصالح المبنية عليها، إذا قامت حائلاً بين الإنسان وبين الانقياد الكلي لأمر الله ودينه، قامت بينه وبين الانقياد ومن حيث المبدأ، قامت حائلاً بين الإنسان وبين الانقياد الكلي فحينئذ لم يتحقق شيء من معنى الإسلام في نفس الإنسان.

وهناك فرق بين أن تتسلط هذه الأهواء والشهوات والمصالح المبنية عليها تتسلط على الإنسان فتضعف فيه أصل الانقياد الموجود وبين أن تقف حائلاً بينه وبين الانقياد من حيث المبدأ.

ففي الحالة الأولى شيء من معنى الإسلام موجود إلا أنه أضعفته تلك الأهواء والشهوات والمصالح المترتبة عليها وفي الحالة الثانية لاحظ للإنسان من معنى الإسلام، لا شيء من معنى الإسلام موجود مع وقوف تلك الموانع حائلاً بينه وبين الانقياد من حيث المبدأ.

هناك ثلاثة أمثلة بارزة من سيرة المصطفى توضح هذا المبدأ. فقد أرسل النبي كتبًا إلى ملوك أهل الأرض في زمنه وكان من أبرز ملوك أهل الأرض في زمنه كسرى ملك الفرس، وهرقل ملك الروم، والنجاشي ملك الحبشة.

فأرسل النبي إلى كل واحد منهم كتابًا يقول فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس - أو إلى هرقل عظيم الروم - السلام على من اتبع الهدى، أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم))[1]، أما كسرى فلما قرأ كتاب النبي استشاط غضبًا ومزق الكتاب أي أعلن بوضوح صارح تمرده على أمر الله عز وجل. ورفضه الوقح للانقياد لله سبحانه وتعالى، ولما بلغ النبي أن كسرى مزق الكتاب دعا عليه[2] بأن يمزق الله ملكه فوالله ما هي إلا سنوات قلائل هي قصيرة في عمر الممالك وإذا بملك كسرى يتمزق شذر مذر وتطأ سنابك خيل المسلمين أرض بلاده ويهيم هو على وجهه شريدًا طريدًا حتى قتله أحد خدمه غيلا.

أما هرقل عظيم الروم فلما قرأ كتاب رسول الله وسمع أوصافه رق قلبه ومال إلى الإسلام بل وأعلن ذلك وأقر به لسانه وبأن هذا النبي حق وهو الذي بشرت به التوراة والإنجيل، بل قال أكثر من ذلك، قال: ليملكن ما تحت قدمي هاتين وودت أني أصل إليه وأغسل الأرض تحت قدميه، لكنه مع ذلك لم يتبع النبي أبى الانقياد لأمر الله الذي جاء به محمد . وذلك خوفًا منه على ملكه وسلطانه وشهواته وأهوائه ومصالحه المترتبة عليها خاف على كل ذلك لما رأى قساوسته ورهبانه سخروا وكفروا وأبوا أن يقروا لسيدنا محمد بالنبوة فخاف منهم ومالأهم وتابعهم على كفرهم فهل نفعته معرفته للحق شيئًا. هل نفعه علمه بالحق شيئًا بل وإقراره بلسانه بل وأكثر من ذلك تمنيه أن يصل إلى النبي ويغسل الأرض قدميه هل نفعه كل ذلك شيئًا، لم ينفعه ذلك شيئًا وبقى هرقل كافرًا ملعونًا بسبب عدم الانقياد.

أما النجاشي رحمه الله فلما قرأ كتاب النبي الذي يدعو فيه إلى الإسلام أسلم[3] وحسن إسلامه رحمه الله، ولما سمع آيات من القرآن قرأها عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بكى النجاشي وفاضت عيناه من الدمع، وفيه يُقال نزل[4] قوله تعالى: ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [المائدة:82-83].

وامتثل النجاشي رحمه الله لأمر سيدنا محمد فأكرم صحابته الذين هاجروا إليه، هاجروا إلى الحبشة وآواهم ووفر لهم الحماية ودافع عنهم بل ووكله سيدنا رسول الله أن يزوجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان فزوجه النجاشي إياها بل وروى أن النجاشي رحمه الله أرسل إلى النبي يسأله إن كان يأمره بالقدوم إليه فيرحل إليه، لكن الرسول لم يأمره بذلك.

النجاشي رحمه الله مسلم وحسن إسلامه بل وصلى عليه رسول الله صلاة الغائب لما بلغه نبأ وفاته.

أما هرقل فكافر فما الفرق بينهما وكلاهما عرف الحق وعلمه وأقر به بلسانه. الفرق بينهما هو الانقياد فالنجاشي عرف الحق واتبعه وانقاد له وامتثل لأمره، أما هرقل فعرف الحق ولم يتبعه وأبى الانقياد له والامتثال لأمره أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد [آل عمران:20].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


 



[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي باب كيف بدء الوحي إلى رسول الله (1/8-9).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى (3/1074).

[3] أخرجه الواحدي وأخرجه الطبري (7/3) وسنده حسن.

[4] أخرجه النسائي في تفسيره (1/443) وغيره.ومسنده صحيح.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

إن من أبرز الظواهر المفزعة في مجتمعاتنا نحو المسلمين اليوم ظاهرة عقوق الوالدين ظاهرة عقوق الأولاد للآباء والأمهات، حياتنا الاجتماعية كلما ابتعدت عن الحياة الإسلامية وكلما اقتربت من الفرنجة كلما اقتربت من الأمركة كلما اقتربت من أسلوب الحياة المادية ضعفت فيها هذه القيم فالأواصر الإنسانية والعلاقات الأسرية لا قيمة لها في المجتمع الأوربي، وفي المجتمع الأمريكي لا قيمة لكل تلك القيم ولا لتلك الأواصر الإنسانية، ولا إلى العلاقات الأسرية الصلة بين الابن وأبويه، من أقوى أنواع العلاقات الإنسانية ومع ذلك فقد تقطعت هذه الصلة عندهم بشكل مريع، تقطعت عندهم وانهارت بشكل مريع وعندنا اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية طابور خامس من أذناب الغرب رضعوا من البان الغرب النجسة فانحرفت فطرتهم وتشوهت وتلوثت مفاهيمهم هذا الطابور الخامس المنحرف المتفرنج يدعو مجتمعاتنا الإسلامية إلى الفرنجة ويسعى إلى فرنجة مجتمعاتنا الإسلامية، وهذه هي مظاهر هذه الفرنجة عقوق الوالدين، كم نعاني اليوم في حياتنا المعاصر من تمرد الأبناء والبنات من سوء أدبهم مع الوالدين، بل من عقوقهم للوالدين. ومن أقرب الأمثلة على ذلك في حياتنا الاجتماعية المعاصرة يكبر الأبناء والبنات فإذا كبروا وذهب كل واحد منهم إلى سبيله تركوا الأبوين وحيدين مهجورين وربما كان أحدهما باقيًا فيُترك مهجورًا وحيدًا وقد بلغ مرحلة الشيخوخة بلغ مرحلة من العمر هو في أمس الحاجة فيها إلى الخدمة والرعاية وإلى وقوف الذرية بجانبه، ثم يتلفت فلا يجد أحدًا من أولاده حوله فأي عقوق هذا أي عقوق شنيع هذا تفشى في مجتمعاتنا نحن المسلمين اليوم.

هذا مرض أجنبي وافد، مرض غربي أوربي أمريكي وفد إلينا من تلك البلاد القذرة النجسة اضطروا إلى أن يُنشئوا الملاجئ للآباء والأمهات الذين بلغوا مرحلة الشيخوخة وهجرهم أولادهم فلم يجدوا من يرعاهم أو يخدمهم وهم في هذه المرحلة البائسة الصعبة فهل وصلنا اليوم في حياتنا الاجتماعية إلى الحد الذي نضطر فيه إلى إنشاء مثل هذه الملاجئ، هذه هي الحياة الأمريكية الأوربية الإفرنجية الذي يدعونا إليها ذلك الطابور الخامس من أذناب الغرب الذي عشش في مجتمعنا وبث سمومه في مجتمعنا، هذه هي الحياة الأمريكية، هذه هي الحياة الأوربية التي تدعونا إليه تلك الوسائل الإعلامية الهدامة المدمرة التي تبث سمومها فينا كل يوم صباحًا ومساء إنها تغسل أدمغة المشاهدين وتصبغ النفوس بالصبغة الغربية حتى بدأنا نحس بآثارها في حياتنا الاجتماعية هذه المشكلات التي ما كنا نعهدها في مجتمعات المسلمين.

تلك البرامج الإعلامية الهدامة والمدمرة تحرض الأبناء والبنات على التمرد على الآباء والأمهات تحرضهم على سوء الأدب مع الوالدين تحرضهم على العقوق للوالدين، وقد قال : ((أكبر الكبائر الإشراك وعقوق الوالدين)).

ولما سُئل رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))[1].

فانظر كيف رتب سيدنا رسول الله الواجبات والفرائض فجعل بر الوالدين وطاعتهما والإحسان إليهما وبرهما بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله. فيا أيها المسلمون جميعًا أوقفوا هذا السيل الإعلامي الهدام المدمر وانفوا هذا الغزو المدمر الذي يحرض أولادكم وأبناءكم على التمرد على الانفلات من الضوابط والأخلاق، كل مسلم منا مسئول أن يفكر كيف يوقف هذا السيل الهدام. كل مسلم منا مسئول أن يحاول أن يوقف هذا السيل الإعلامي الهدام الذي هجم على بيوتنا وعلى أولادنا وعلى مجتمعاتنا، أوقفوا هذا التدمير هذه الفرنجة أيها المسلمون، هذا التخريب أوقفوه قبل أن تخسروا أولادكم وتخسروا أسركم وتخسروا بناتكم وتخسروا مجتمعكم.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.

واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ولو كنت وحدك على ذلك.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.

ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].

وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ))[2].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.



[1] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب البر والصلة (5/2227).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر (5/2229).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً