قال تعالى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين [الأنعام:34]. جرت سنة الله تعالى أن الأنبياء ومن سار على دربهم هم أشد الناس بلاء، والصبر هو ملجأ الأنبياء وأصحاب البلاء في كل زمان ومكان.
فما الصبر؟ وهل نحن بحاجة إلى الصبر؟ وما أنواعه؟ وما موقفنا منه؟
أما الصبر: فهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع، في عقولنا فنوقن بقصورها عن الإحاطة بحكمة الله عز وجل فيما قضى وقدر: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216]. وفي ألسنتنا فلا نتجاوز ما أخبر به الحق عن أوليائه عند المصيبة قولهم: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156]. وفي الجوارح فلا تظهر التسخط للحديث: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)). وللحديث: ((من ضرب فخذه - أي عند المصيبة- حبط أجره، والصبر عند الصدمة الأولى)).
وأما هل نحن بحاجة إلى الصبر ؟
1- فنعم ذلك لأن الدنيا دار بلاء وهموم وغموم تذيب القلب وتطحن البدن فيعقوب عليه السلام فقد بصره من كثرة بكائه لفقده يوسف عليه السلام فلم يجد غير الشكوى إلى الله والصبر ملجأ: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18]. سئل الإمام علي : (ما أشد جند الله عز وجل؟ فقال: الجبال، والحديد يقطع الجبال فالحديد أقوى والنار تذيب الحديد فالنار أقوى، والماء يطفئ النار فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء فالسحاب أقوى والريح يعبث بالسحاب فالريح أقوى والإنسان يتكفى الريح بثوبه ويده فالإنسان أقوى والنوم يغلب الإنسان فالنوم أقوى والهم يغلب النوم فالهم أقوى فأقوى جند الله عز وجل الهم).
2- ونحن بحاجة إلى الصبر لأن مشيئة الله نافذة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ومن أنت حتى تعترض على قضاء الله وأمره جاء في الحديث القدسي: ((عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد فإذا رضيت عما أريد كفيتك ما تريد وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد)).
وأما أنواع الصبر:
الصبر على الطاعة: صلتنا بالله ليست صلة أيام ومواسم كالذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فإذا خرج رمضان خرجوا كالأنعام إلى شهواتهم. غايتنا أن نلقى الله تعالى عن كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله سبحانه: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين أي الموت وقال: رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [مريم:65]. وكلما ازداد العبد صبرا على الطاعة ازداد حبا لها وشوقا فهذا أحد الصالحين يفرش له فراشه بعد صلاة العشاء فيضع يده عليه ويقول: والله إنك للين ولكن فراش الجنة ألين منك ثم يقوم إلى صلاته إلى الفجر، حتى يسأل عمر ما أحب شيء إلى نفسه؟ فيقول: (ضرب السيف وصيام بالصيف)، ورسول الله يقول: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط)).
أ - قبل العمل: بأن تكون النية خالصة لله: ((إنما الأعمال بالنيات)).
ب- عند العمل: فلا يكسل ولا يفتر: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).
ج- وعند الفراغ منه فلا يمن به ولا يطلب به سمعة: من جاء بالحسنة فله عشر أمثلها [الأنعام:160].
الصبر عن المعصية: فتحفظ نفسك عن كل ما يدنيك من المعصية في بصرك: ((النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها لله تعالى أبدله الله نورا يجد حلاوته في قلبه))، وفي لسانك: ((أمسك عليك هذا وأشار إلى لسانه يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)). وفي بطنك فلا يدخلها حرام للحديث: ((واعلم أن اللقمة الحرام إذا وقعت في جوف أحدكم لا يتقبل عمله أربعين ليلة)). وفي فرجك فلا تزني للحديث: ((من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له الجنة)).
رحم الله أحد الأصحاب وكان يشعل سراجا ثم يضع إصبعه عليه ويقول: ((حس حس ألم تفعل ذنب كذا، ألم تفعل ذنب كذا)).
الصبر على المصائب: والمسلم موقن بقدم ما كتبه الله على عبيده للحديث: ((قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) ولله در الشافعي إذ يقول:
دع الأيـام تفعـل مـا تشاء وطب نفسا إذ حكم القضاء
ولا تجـزع لـحادثة اللـيالي فمـا لحـوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا وشيمتك السمـاحة والوفاء
وأرض الله واسـعـة ولـكن إذا نزل القضا ضاق الفضاء
فهذا أيوب عليه السلام ابتلي في نفسه وولده وماله وتسأله زوجه أن يسأل الله كشف الضر وهو النبي المستجابة دعوته فيقول لها: ((كم مضى علينا في عافية فتقول: ستين سنة، فيقول لها: فإني أستحي أن أسأل ربي العافية وما بلغنا في البلاء ما بلغناه في عافية)). فالصحة أعوام والمرض أيام، والعافية سنوات والبلاء ساعات وكلها تمضي وتكون شيئا من الماضي كما قال الشاعر:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الكاشف الله
سهرت عيون و نامت عيون في أمور تكون أو لا تكون
إن الذي كفاك بالأمـس هما يكفيك غـدا مـا سيكـون
وأما موقفنا من الصبر:
فعلينا أن نوقن أن العاقبة للصابرين المتقين: فهذا يوسف عليه السلام تآمر عليه إخوته فصبر وألقي في البئر فصبر وبيع بيع العبيد وهو الحر فصبر، وعمل خادما في قصر وهو الشريف فصبر، واتهم في عرضه وهو العفيف فصبر وسجن وهو البريء فصبر فأبلغه الله بعد ذلك المنزلة العالية حيث جعل أرزاق الناس وحاجتهم إليه في المؤونة حتى جاءه إخوته بائسين محتاجين الذين قالوا بالأمس: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا [يوسف:9]. هم الذين يقولون اليوم: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين [يوسف:88].
واعلم أنه لا صبر إلا بيقين بالله وحكمته وعدله، وباليوم الآخر وما فيه من جزاء وحساب عادل للحديث: ((ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم اؤجرني في مصيبتي واعقبني خيرا منها إلا فعل الله به ذلك)) .
ومن الدعاء المأثور عن النبي قوله: ((اللهم إني أسألك من اليقين ما تهوّن علي به مصائب الدنيا)).