أما بعد، فإذا تأملنا القرآن الكريم، وجدناه يركز على قاعدة أساسية، هي الهدف لكل رسالة سماوية، وهي الغاية من وجود الإنسان في هذه الحياة، من قام بها على وجهها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها، فقد أبطل غاية وجوده، وصار عاطلاً بلا وظيفة.
إنها العبودية الخالصة لله. قال ـ تعالى ـ: وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. هذه هي وظيفة الإنسان التي من أجلها خلق ومن أجلها وجد في هذه الدنيا.
فيجب أن تكون حياة الإنسان وتصوره مبنية على هذه الوظيفة. متجهة إليها، فإن كل الرسالات السماوية جاءت لتحقيق هذه الوظيفة للإنسان، فجميع الرسل – عليهم السلام – من أولهم نوح إلى آخرهم محمد كان أساس دعوتهم تذكير أممهم بهذه الوظيفة، وتحقيق العبودية لله.
فهذا نوح ـ عليه السلام ـ: قَالَ يٰقَوْمِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:2، 3]. لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]. وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [الأعراف:65].
وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحًا قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73].
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ [الأعراف:85]. وَإِبْرٰهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]. لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرٰءيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلَـٰلَةُ فَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ [النحل:36]. وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
والقرآن لم يحدد نوع العبادة ولم يحصرها، فهي شاملة لكل ما يدخل تحت مسمى العبادة من الأقوال والأفعال والاعتقاد، فكلها حق لله، وحرام صرف شيء منها لغير الله، كائنا من كان. حياً كان أو ميتاً، ولا تتحقق العبودية لله إلا بأمرين متلازمين.
الأول: الإيمان بأن هناك عبداً ورباً. وأنه ليس في الوجود إلا رب واحد، وما سواه فعبيد له، وأن الرب موصوف بصفات الكمال مما وصف نفسه ووصفه رسوله – - وهذا هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ [سورة الإخلاص].
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [الشورى:11].
والثاني: التوجه إلى الله في كل حركة للجوارح وكل حركة للفؤاد، والتجرد من كل تصور آخر ومن كل أمر يخالف مقتضى العبودية.
وهذا هو توحيد القصد والطلب، وهو توحيد الألوهية، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [سورة الكافرون].
فبتحقيق توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتوحيد الألوهية يتحقق معنى العبادة.
ومن واجبات العبادة أن تكون قيمة الأعمال مستمدة من قواعدها لا من نتائجها، فالإنسان مكلف بأداء العبادة وليس مكلفاً بنتائجها، وإنما النتائج راجعة إلى قدر الله ومشيئته.
ومقتضى العبودية لله نَبْذ الأنداد والأضداد، والبراءة من كل عبودية لغير الله، فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]. وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26، 27]. والأنداد: قد لا تكون آلهة تعبد من دون الله على النحو الذي كان في الجاهلية الأولى، بل قد تكون صوراً أخرى خفية، قد تكون في تعلق الرجاء بغير الله، وقد تكون في الخوف من غائب غير الله أو من ميت تحت الثرى، وقد تكون في الاعتقاد أن أحداً من الخلق يملك التصرف في هذا الكون أو شيء منه، وقد تكون في مضاهاة الله في عظمته وكبريائه وربوبيته، وقد تكون في الطاعة والانقياد كما قال ـ تعالى ـ: ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ [التوبة:31]. قال عدي بن حاتم –-: لسنا نعبدهم – أو قال: إنهم لم يعبدوهم – فقال رسول الله : ((بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فصارت طاعتهم في المعصية عبادة)). وبها اتخذوهم أرباباً فمن أطاع مخلوقاً في معصية الخالق فقد اتخذه رباً وعبده من دون الله.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ، يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
هناك أنواع من العبادة تصرف لغير الله في بعض البلاد الإسلامية، ولا موجه ولا مرشد.
من ذلك: الركوع للمخلوقين، ومعلوم أن الركوع ركن من أركان الصلاة مثل السجود، فبعض الناس إذا قابل أحداً يحترمه أو له فضل عليه ركع له ركوعاً جزئياً أو كلياً، كما هو المشاهد في بعض الخدم وفي بعض الممثلين إذا خرج على الجمهور، وقد يكون القصد التحية لكنها صورة عبادة خاصة لله لا تصرف لغير الله ولا يحيّى بها.
ومن ذلك الطواف، فهو عبادة لله وقربة يطاف حول الكعبة المشرفة ومن شعائر الإسلام، فلا يجوز أن يطوف أحد بضريح أو تمثال أو نصبٍ.
ومن ذلك طلب النجاح، أو طلب الهداية للأولاد، أو طلب الولد، أو طلب المدد والغوث، أو طلب تفريج الهم والغم والكرب وغير ذلك من أنواع العبادة، أو طلب الحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله،لا يجوز طلبها من أحد غير الله، كائناً من كان؛ لأنها دعاء والدعاء مخ العبادة، وحرام صرف العبادة لغير الله.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تناصحوا فيما بينكم، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تأخذكم المجاملات إلى عدم المبالاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، اللهم اعنا على شكرك وعلى ذكرك وحسن عبادتك. وألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، واهدهم سبل السلام، واغفر لنا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.
|