أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ـ تعالى ـ حق التقوى، فإن حق التقوى أن يطاع ربكم فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، فأطيعوا ربكم ولا تعصوه، واذكروه فلا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه، تفوزوا بمغفرته ومحبته ورضوانه وجنته، وتنجوا من مقته وعقوبته وناره ولعنته في الدنيا والأخرى.
عباد الله، من نعم الله الجلية ومنحه الكبرى التي ينبغي أن تذكر فتشكر، وأن يتقرب بها إليه فلا تكفر، وهي مما خص الله به هذه الأمة وجعلها من أسباب المحبة والمغفرة والرحمة، ما أشار إليه الحق ـ تبارك وتعالى ـ بقوله: هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ هُوَ سَمَّـٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ [سورة الحج:78].
فاليسر ورفع الحرج في هذه الشريعة المباركة المطهرة شامل لجملة أحكامها، وهو سمة من أبيَن سماتها، وأمثلة ذلك من نصوص الوحيين كثيرة، وشواهده في أحكامها وفيرة، ومن ذلك ما امتن به الرب الجليل على العباد بقوله في محكم التنزيل: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:6].
فقد امتن ربنا سبحانه على عباده بيسير أمر الطهارة، والتنبيه على أنواعها وموجباتها بأوجز إشارة، وبيان كيفيتها ومواضعها بأوضح عبارة، فابتدأ بذكر الوضوء وهو الطهارة من الحدث الأصغر كالغائط والبول وغيرهما مما خرج من السبيلين، ويلحق بذلك ما ثبت في السنة نقضه للوضوء على التعيين، وجعل هذه الطهارة خاصة بأربعة أعضاء ظاهرة هي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان. وذلك ـ والله أعلم ـ لكونها كثيراً ما تتعرض للأذى والغبار، وهي أعضاء تكسب بها الأوزار، فتحتاج إلى التطهير على وجه الكمال خمس مرات في الليل والنهار.
أيها المسلمون، ثم أردف ـ تبارك ـ وتعالى بذكر الطهارة الكبرى بقوله: وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ [سورة المائدة:6]. وهي الغسل من الجنابة بتعميم جميع البدن بالغسل بالماء، وموجبه خروج المني بصفته وطبيعته من الذكر والأنثى، وكذلك الجماع مطلقاً، ومثلهما الحيض والنفاس من النساء، وقد بينت السنة كيفية الاغتسال وأن المغتسل يغسل فرجه أولاً، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى إذا وصل إلى رأسه صب عليه الماء ثلاثاً أو حتى يرويه، ثم يغسل شق بدنه الأيمن ثم الشق الأيسر ثم يغسل رجليه، وبهذه الكيفية يتحقق له الغسل والوضوء مع النية.
وكان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد، وقد يغتسل بخمسة أمداد، وكان هديه الاقتصاد في ماء الوضوء والاغتسال، وحث العباد على الاقتصاد فيهما مع الكمال.
معشر المسلمين، ولما كان المسلمون يتعرضون غالبا في السفر وأحيانا في الحضر لفقد الماء أو العجز عن استعماله لمانع أو داء، شرع التيمم من الصعيد الطيب من الأرض، فقال: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْه [سورة المائدة:6]. فهذا هو التيمم؛ يصلي به المسلم ـ إذا احتاج إليه ـ النفل والفرض؛ فإنه طهارة تامة ينوب عن التطهر بالماء في سائر أحكامه، ولا يبطل إلا بمبطلات الوضوء. وصفته أن يضرب المتيمم وجه الأرض ضربة واحدة بباطن يديه ثم يمسح بهما مرة وجهه وظاهر كفيه.
معشر المسلمين، وفي قوله ـ تعالى ـ: وَأَرْجُلَكُمْ قراءة أخرى صحيحة وهي القراءة بخفض وَأَرْجُلَكُمْ ؛ على الرؤوس؛ رخصة المسح على الخفين والجوربين ونحوهما من التساخين، وهي رخصة تواترت فيها الأحاديث عن النبي حيث بلغت أربعين حديثاً من رواية سبعين صحابيا، كلهم أخبر أنه رأى النبي مسح على خفيه، وليس بينهم – بحمد الله – اختلاف في ذلك، واتفق عليها من بعدهم التابعون وأتباعهم وأئمة الهدى، وقرروها في عقيدتهم تنبيها على أن من أنكرها فقد خالف أصولهم واتبع غير سبيلهم.
وثبت أيضا أن النبي مسح على الجرموقين – وهما الشراب ونحوهما من التساخين – عن تسعة من أصحاب النبي ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة. فعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي في سفر، فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) فمسح عليهما متفق عليه. وعنه أيضا أن النبي توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. صححه الترمذي.
أيها المسلمون: ولابد أن يكون الملبوس من خف أو جورب ضافياً على القدم إلى الكعبين، لا يقصر عنهما حتى يكون ساتراً لما يجب غسله؛ ليكون المسح نائباً عن الغسل، وهذا مأخوذ من مسمى الخف والجورب، فإنه لا يطلق في اللغة ولا في اصطلاح الشرع إلا على ما كان ساتراً للقدم كله إلى الكعبين، أما النعلان والخفان المقطوعان وكل ما يلبس دون الكعبين فلا يصح المسح عليه. ومن كان عادته خلع الخفين عند دخول المسجد والمجلس ونحوهما فينبغي له أن يقتصر على مسح الجوربين دون الخفين، وإنما يشرع المسح على الخفين في الطهارة من الحدث الأصغر كالبول والريح والغائط ونحوهما، أما من أصابه حدث أكبر كالجنابة والحيض من المرأة، فلابد من نزع خفيه وغسل رجليه ليستكمل طهارته؛ لحديث صفوان بن عسال قال: كان يأمرنا ـ يعني النبي ـ إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن ليس من غائط وبول ونوم.
أيها المؤمنون، وتبتدئ مدة المسح من أول مسح في طهارة من حدث يلي لبس الخفين أو الجوربين إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الثاني في حق المقيم، وهو يوم واحد، وفي حق المسافر ثلاثة أيام، لما ثبت عن علي قال: قال رسول الله : ((ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم)). يعني في المسح على الخفين. [رواه مسلم].
وعن صفوان بن عسال قال: أمرنا رسول الله أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا.
فالأحاديث جاءت بألفاظ: يمسح، ونمسح، وأمر بالمسح، إلى غير ذلك، مما يدل على أن ابتداء المدة متعلق بالمسح لا باللبس، ولأنه بداية التمتع بالرخصة.
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إنعامه وما يسر من أحكامه، وتوبوا إليه من كل ذنب وخطيئة: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ [سورة التحريم:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
أخرجه البخاري ح (201) ، ومسلم ح (325).
انظر بعض الروايات في صحيح البخاري ح (202 ، 204 ، 205 ، 387) ، وفي صحيح مسلم ح (272 ، 273 ، 275).
صحيح البخاري ح (206) ، صحيح مسلم ح (274).
صحيح ، سنن الترمذي ح (99) وقال : حسن صحيح.
حسن ، أخرجه أحمد (4/239) والترمذي ح (96) وقال : حسن صحيح ، والنسائي ح (127) ، وابن ماجه ح (478).
|