أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، ومما يروى من وصايا النبي وبليغ عظاته أن قال: ((أيها الناس، أيقنوا من الدنيا بالفناء ومن الآخرة بالبقاء، واعملوا لما بعد الموت فكأنكم بالدنيا كأن لم تكن، وبالآخرة كأن لم تزل، إن من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، وإن الضيف مرتحل والعارية مردودة، فرحم الله امرءا نظر لنفسه، ومهد لرمسه، ما دام سنه مرخى وحبله على غاربه ملقى قبل أن ينفد أجله وينقطع عمله، ألا وإن دنياكم سريعة الذهاب وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، بل اسعوا في عمران آخرتكم، واجتهدوا في تكمليها وتحسينها قبل انتقالكم؛ فإن قصور الجنة وبساتينها تعد وتهيأ بحسب ما تقدمون من صالح الأعمال والأقوال، ومن فاته منزله من الجنة فليس له إلا النار دار الإهانة والنكال، فإن الناس يوم القيامة يصيرون إلى فريقين؛ فريق في الجنة وفريق في السعير))، وفي موعظة للنبي قال: ((فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار)).
قال ـ تعالى ـ: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً % وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً [النساء:29-30]. وصح عن النبي أنه قال: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري].
أيها المسلمون، وإاذا كانت هذه حرمة دم المسلم فإن لعنه وهجره وتفسيقه ورميه بالكفر بغير حق فهو كقتله، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي قال: ((ولعن المؤمن كقتله))، وفي سنن أبي داود عن النبي قال: ((إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم يجد مساغاً رجعت إلى الذين لُعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها))، وصح عن النبي أنه قال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [متفق عليه]. وفي البخاري عن أبي ذر أنه سمع رسول الله يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسق والكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) وفي صحيح مسلم عنه : ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم))، وفي سنن أبي داود عن أبي خراش السلمي أنه سمع النبي يقول: ((من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه))، وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار)).
أيها المسلمون، أما أذية المسلمين بأخذ أموالهم فهي من أعظم الظلم وأكبر موجبات الإثم، قال : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))، وقال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)). فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: ((وإن كان قضيباً من أراك)).
أيها المسلمون، ثبت في صحيح البخاري عن النبي قال: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة))، وقال : ((إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته ـ يعني أوضح وأبين ـ من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإني أقطع له قطعة من النار)) [متفق عليه].
وقال : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [رواه البخاري].
وأخبر أن الدَّيْن لا يكفره القتل في سبيل الله؛ وذلك لأنه من حقوق الناس.
فمن أخذ للناس شيئاً بغير حق فهو ظلم جزاؤه النار، سواء أخذه من طريق القوة والقهر، أو عن طريق الخديعة والحيلة، أو عن طريق الرشوة، أو بواسطة اليمين الفاجرة.
أيها المسلمون، كثيراً ما يذكر الله ـ تعالى ـ أنواع الأعمال الصالحة، ثم يذكر ما أعد لأهلها من أصناف النعيم وألوان التكريم؛ من المساكن والغرف المبنية، والثمرات الدانية الشهية، والعيون والأنهار الجارية بالمشارب الهنية، وأكبر من ذلك رضوان الرب الكريم وجواره في دار التكريم، كل ذلك حثاً منه ـ سبحانه ـ لعباده على تحري الأعمال الصالحة، واغتنام الفرص والمواسم طلباً للتجارة الرابحة، كما قال ـ تعالى ـ: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَـٰكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوٰنٌ مّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [التوبة :71، 72].
وكما قال ـ تعالى ـ: قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـوٰةِ فَـٰعِلُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ لاِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوٰتِهِمْ يُحَـٰفِظُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْوٰرِثُونَ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [المؤمنون:1-11].
وكما قال ـ سبحانه ـ: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ % تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13].
وقال ـ جل ذكره ـ: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ وَجَنَّـٰتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:20-22].
فرتب ـ سبحانه كريم ـ الثواب وحسن المآب على العمل الصالح وهجر المنكرات والإعراض عن القبائح، فاجعلوا آخرتكم لأنفسكم، وسعيكم لمستقركم، وفكركم وجهدكم فيما تبنون به منازلكم، وتغرسون به بساتينكم في الجنة.
روي أن نبينا لقي إبراهيم ـ عليه السلام ـ ليلة أُسْرِيَ به فقال له إبراهيم: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن بها قيعان، وأن غراسها ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).
وروي أن الملائكة تبني للمؤمن القصر في الجنة فربما وقفوا، فيقال لهم في ذلك فيقولون: حتى تأتينا النفقة. فأعمالكم الصالحة في الدنيا نفقات لبناء قصوركم وغراس لبساتينكم في الجنة، فلا تكسلوا ولا تبخلوا؛ فإن نقص ذلك عائد عليكم.
معشر المؤمنين: وكم في سنة النبي من ذكر أعمال يسيرة يعطي الله أهلها أجوراً وفيرة وبيوتا في الجنة، ففي صحيح مسلم عن عثمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة))، وفي صحيح مسلم أيضا وغيره عن أم المؤمنين أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله ـ تعالى ـ كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة))، وروي عن أنس قال: قال رسول الله : ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً من ذهب في الجنة)).
وفي فضل صبر المؤمن على موت ولده وحمده لربه واسترجاعه يقول الله ـ تعالى ـ لملائكته: ((ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)).
وفي سنن أبي داود بسند صحيح قال : ((أنا زعيم – يعني ضامن – ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).
فيا عباد الله، بادروا اللحظات في استباق الخيرات، والمنافسة في جليل القربات قبل الفوات، وتزودوا من دار ممركم بما يصلح دار مستقركم، وقدموا خيراً يسركم؛ فإن الخير كله في اتباع الكتاب والسنة والسير على منهاج السلف الصالح من هذه الأمة، وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلاْوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلانْصَـٰرِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلانْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [التوبة:100].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
|