أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واتبعوا ما جاءكم من ربكم من النور والهدى، واستمسكوا بسنة نبيكم محمد تنجوا من فتن عظيمة في زمانكم تترى، وإياكم والمحدثات في الدين، فإنها هي البدع التي تضل عن الهدى، وتورث العمى، وتسلب النعمى، وتجلب الردى، وتهوي بصاحبها إلى جرف من النار تلظّى.
أيها المسلمون: كان نبيكم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم. ويقول: ((بعثت وأنا والساعة كهاتين))، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)). وفي رواية للنسائي رحمه الله زيادة: ((وكل ضلالة في النار)).
ولقد حدث الصحابي الجليل العرباض بن سارية فقال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).
أيها المسلمون: هذا بيان نبيكم محمد ووصيته إياكم وتبليغه لكم؛ فهل بعد هذا البيان بيان؟ وهل وراء هذه الوصية وصية؟ وهل فوق هذا التبليغ تبليغ؟ لقد تضمن هذان الحديثان الجليلان فيما تضمناه من الوصايا الكريمة والنصائح المهمة: التأكيد على أصول اعتقادية عظيمة، وقواعد منهجية راسخة، وموازين سلوكية مستقيمة يقوم عليها الإيمان، ويحفظ بها للعقيدة الأساس والبنيان، وتوزن بها المقاصد والأعمال والأقوال، وتعرف بها أحوال الرجال، وتعرض عليها الحوادث المستجدة، ويُقوَّم بموجبها سلوك الفرد والأمة، ويضمن المستمسك بها ممن خلف السير في كل الأمور على هدي خير السلف.
أيها المسلمون: فأصل تلك الأصول التي أمر الرسول بالتمسك بها كتاب الله خير الحديث، وأصدق القول، وأشرف الذكر، وأعظم الذخر، فإنه حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، الهادي لكل أمر قويم، وهدى مستقيم، من تمسك به رفعه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، ومن تركه من جبار قصمه الله، نعته الله بأجمل نعت، ووصفه بأكرم، وصف بأنه ذكر للعالمين، ورحمة للمؤمنين، وهدى للمتقين، وبشرى للمحسنين، ما فرط الله فيه من شيء؛ بل جعله تبياناً لكل شيء، يهدي للتي هي أقوم، ويرشد إلى الخلق الأعظم، فهو ذكر وذكرى، ونور وهدى، وموعظة وبشرى، قال فيه المتكلم به سبحانه: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى [سورة طه :123-124].
وجاء في الصحيح السنة المطهرة: أن القرآن يأتي شفيعا لأهله يوم القيامة، وأن من كان القرآن خصمه فإنه يحرم الشفاعة، ويخلد في النار وبئس القرار.
فاتلوا القران – عباد الله – وتدبروه، واعملوا به ولا تهجروه، وتحاكموا إليه وارضوه، وما أشكل عليكم منه فالتمسوا بيانه في السنة الصحيحة تجدوه، فإنكم عنه مسؤولون: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون [سورة الزخرف:44].
أيها المسلمون: وأما ثاني تلك الأصول التي نص عليها الرسول فهي السنة الغراء المبينة للهدى، فإنها تفسر القران وتبينه أبلغ البيان، تفسر مجمله، وتوضح مشكله، وتفتح مغلقه، وتقيد مطلقه، وتخصص منه العام، وتستقل عنه ببعض الأحكام، فقد وكل الله إلى نبيه تبيين ما نزل إليه، كما جاء في القران النص عليه: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [سورة النحل:44]. فالرسول هو الداعي إلى الله والمبين لدينه وهداه، والدال لجميع الناس على كل ما يحبه ويرضاه، والمنذر للعصاة من هول يوم لقاه، فأسلم الناس من الفتن من تمسك بمأثور السنن، وأسعد الناس بشفاعته من أخلص لله في عبادته، وتمسك في سائر أحواله بهديه وسنته، وأولياء الله حقا هم السائرون على منهاجه صدقا، فإنه أسوة المؤمنين، قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [سورة الأحزاب:21].
فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتأسَّ بنبيه في الباطن والظاهر، ومن ادّعى محبة الله فليأت ببينة على ما ادعاه باتباع حبيبه محمد ومصطفاه، ومن تولى عن دينه وهداه ولاه الله ما تولاه، وما ظلمه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [سورة آل عمران:31-32].
ولهذا شهد الله بالإيمان والفلاح لمتبعيه، وتوعد بالفتنة والعذاب مخالفيه، قال تعالى: فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [سورة الأعراف:157]. وقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [سورة النور:63].
ومن خالف أمره فقد رغب عن سنته، ومن رغب عن سنته خشي عليه أن لا يكون من أهل ملته، وأن يحال بينه وبين رحمة الله وجنته، قال : ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)). وقال: ((كل أمتي يدخل إلا من أبي)) قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)). فمن تمسك بالكتاب والسنة فقد أخذ بأسباب الرحمة، وفاز بالعصمة، وأمن من الضلالة والفتنة، فالمتمسك بهما محفوظ، وليبشر من الله تعالى في الدنيا والآخرة بالخير وأعظم الحظوظ.
أيها المسلمون: وأما سنة الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين، فإنها طريق الاستقامة، ومنهاج الكرامة، وهي على توفيق متبعهم فيها علامة، فإنهم رضي الله عنهم هم خيار أصحاب النبيين، وأشرف الحواريين، كيف لا وهم قوم أختارهم الله لصحبه نبيه، وائتمنهم بعده على دينه ووحيه، فهم خلفاء الرسول في أمته، السائرون على هداه وطريقته، والقائمون بعده بتبليغ رسالته، أبرُّ هذه الأمة قلوبا، وأصدقها ألسنا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فهم أئمة الأئمة، وهداة جميع الأمة، أثنى الله عليهم بالمسارعة إلى الخيرات، وشهد لهم بالسبق إلى أعلى الدرجات، وأخبر أنهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم في الدنيا ويوم القيامة الشهداء على الناس، من سلك سبيلهم فهو على الهدى، ومن ترك طريقهم فقد اتبع الهوى فهوى، وسيولِّيه الله يوم القيامة ما تولى، قال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً [سورة النساء:115].
فعليكم عباد الله بما كان عليه الصحابة؛ فإنهم أهل الجنة والفلاح والإصابة، أخبر النبي أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فسئل عنها فقال: ((هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). فاتباعهم هم الفرقة المبرورة المشكورة، والطائفة الظاهرة بالحق والمنصورة، التي لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، حتى يأتي الله بأمره، جعلنا الله وإياكم بهم مقتدين، ولهم في كل شيء متبعين، وبهديهم ظاهرين، وجمعنا بهم في دار كرامته يوم الدين.
أيها المسلمون: فالكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة وأتباعهم من سلف الأمة، هي براهين الحق، وموازين الاستقامة، ومعالم التوفيق، وهي القسطاس المستقيم التي ينبغي أن يوزن بها كل جديد، وأن تحكم في القريب والبعيد، وأن يخضع لها الدقيق والجليل، والكثير والقليل، فهي والله قاصمة لظهور المنافقين، وقاضية على بدع المبتدعين، وكاشفة لشبهات المشتهين، ومبينة لزيغ الضالين المبطلين في الحق والصدق: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [سورة الأنبياء:18]. فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [سورة العنكبوت:3].
أيها المسلمون: وأما الأمور التي حذر منها النبي في خطبته، وزجر عنها في بليغ موعظته، فهي محدثات الأمور التي يخترعها ويرتكبها متبعو الأهواء في سائر العصور، وكم فيها من أنواع الفتن في الأرض والفساد والكبير، فإن المبتدع يتقرب إلى الله بعمل يخترعه من عند نفسه أو يتبع فيه غيره، ويعده من دين الله، ويدعو إليه من استطاع من عباد الله، مع أنه ليس له اصل في القرآن، ولم يقوم عليه من سنة النبي برهان، ولم يكن من هدي الصحابة الكرام، ولا التابعين وأتباعهم من أئمة الإسلام.
فالبدع كلها شر وضلال، وشقاء عظيم في الحال والمآل، فإنها تبديل للدين، وتضليل للمسلمين، واتباع لسنن الجاهلين والمغضوب عليهم والضالين، وهي استدراك على الله في شرعه، أو اتهام للنبي في تبليغه وبيانه، أو وصف للصحابة رضي الله عنهم – وحاشاهم – بالسذاجة وعدم الفقه، أو سوء القصد، أو قلة الرغبة في الخير، وهي تفريق للدين وتشتيت للمسلمين، وفتح لباب يدخل منه الكافرون والمشركون في حربهم للدين وأهله المؤمنين، قال تعالى: ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [سورة الروم:31-32].
وأي ضلال أعظم من الاستدراك على الله في شرعه أو القول عليه بلا علم؟! وأي نفاق أخطر من اتهام النبي في تبليغه ما أنزل إليه من ربه؟! وأي غرور أشد من ازدراء الصحابة بنسبتهم إلى التقصير فيما يكمل الإيمان، أو نقص شكرهم لنعم الله مولى الفضل والإحسان، فقبح الله المبتدعة ما أنقص عقولهم وسفه أحلامهم، وتبّا لهم ما أقبح بضاعتهم وأخسر صفقتهم: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [سورة البقرة:16]. كيف يتقربون إلى الله بما اخترعوا من البدع ويعدونها أفضل وأحسن مما شرع؟! قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [سورة الكهف:103-104].
بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الهدى والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم أنه هو الغفور الرحيم.
|