أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واذكروه واشكروه، إذ خصكم من بين الأنام اصطفى لكم دين الإسلام، وأكمله لكم وأتم عليكم به الإنعام، وجعله الدين الخالد المحفوظ بحفظ الله له على مر الدهور والأعوام: لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَـٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
أيها المسلمون: إن مبنى دين الإسلام يقوم على قاعدتين أساسيتين هما مقتضى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله؛ اللتين لا يحكم لأحد بالإسلام إلا بالتلفظ بهما، والاعتقاد لمعناهما، والالتزام بالعمل بمقتضاهما، ونبذ كل ما خالفهما وضادهما.
القاعدة الأولى: أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فلا معبود بحق سواه، فكل معبود معه أو من دونه فعبادته باطلة، وعابده من المشركين الجاحدين، وإن عد نفسه من المسلمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:25]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ [النحل:36].
وصرح سبحانه أن كل رسول خاطب قومه أول ما خاطبهم فقال: يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]. ونعى سبحانه على المشركين الذين جعلوا أهواءهم، وأصنامهم وأوثانهم أندادًا لرب العالمين، فساووهم به في المحبة والخضوع والطاعة في المشروع والممنوع، وأنهم يندمون على تلك التسوية يوم الدين حين لا ينفع الندم، إذا دخلوا النار مأوى شر الأمم قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [الشعراء:96-98].
أيها المسلمون: إن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرع على لسان نبيه ورسوله محمد ، فلا يعبد بالأهواء ولا البدع، قال تعالى: ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]. وقال سبحانه: وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. وقال سبحانه: شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ[الشورى:13]. إلى قوله: فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى:15].
فجعل تعالى الهوى مقابلاً للدين، فكل من تدين بدين لم يشرعه الله فحقيقة أمره أنه متبع لهواه، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]. وقال تعالى: مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80]، وقال سبحانه: وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
وقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِيناً [الأحزاب:36]، وقال جل وعلا: وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الحشر:7]. وقال سبحانه: فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
أيها المسلمون: ولقد تواتر عن النبي الوصاة للأمة بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن فيهما لمن تمسك بهما العصمة من كل ضلالة، والسلامة من كل فتنة، والنجاة من كل هلكة.
أيها المسلمون: وما أشكل فهمه من نصوص الكتاب والسنة، أو لم يعرف وجه تطبيقه وتحقيقه، فإنه يرجع إلى صحابة النبي ، فإنهم هم خلفاؤه الراشدون، وهم من بعده أئمة أمته المهديون، قال : ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافـًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)). وقال حذيفة : (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد فلا تتعبدوها فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً).
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (سن رسول الله وولاة الأمر من بعده – يعني الخلفاء الراشدين وأئمة الصحابة المهديين – سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء مما خالفها، من عمل بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا).
أيها المسلمون: فالكتاب وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة، هي براهين الحق، ومعالم الهداية وموازين الأمور، وهي التي تزكي النفوس وتطمئن القلوب، وتشرح الصدور وتنور البصائر، وترجح العقول وتسدد الأقوال، وتصلح الأعمال وتجمل الأحوال، وتحسن المآل، وما سوى هذه الثلاثة فهي شر المحدثات، وأنواع الضلالات المهلكات، التي تصد عن الهدى، وتنافي التقوى وتجلب العمى، وتورث الشقاء، ولهذا كان النبي ينهى عنها في كل خطبة جمعة فيقول: ((أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
وجاء التحذير من البدع في أحاديث كثيرة ومناسبات متعددة وصيغ بليغة؛ كقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((من علم عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)). وقال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) رواه الترمذي وغيره. وفي الصحيح: ((إن أقوامًا يطردون عن حوضه يوم القيامة كما تطرد الإبل العطاش، فيقول : أمتي)) – في رواية: ((أصحابي – فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله، عن النبي قال: ((من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)). وفيه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئـًا)). وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي قال: ((ليس من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛ لأنه كان أول من سن القتل)).
وروي عن النبي في المراد بقوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]. ((أنهم أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة)).
أيها المسلمون: وإنما جاء هذا الوعيد الشديد لأهل البدع؛ لأن البدع تفسد القلوب، وتفتح للشيطان الباب، فيزين للمبتدع سوء علمه، ويغريه ببدعته، حتى يرى المعروف منكرًا والمنكر معروفـًا، فيعرض عن الحق حين يدعى إليه، ويشتغل بشر ما هو فيه، ويسعى في تغيير الدين، وإضلال المسلمين، وتشتيت الكلمة، وتفريق الأمة، حتى يفرق الناس دينهم شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون.
أيها المسلمون: إن البدع في الدين أصل كل بلاء وفتنة، فإنها حدث في الدين وتغيير للملة، ومن شؤمها أنها لا تزيد أصحابها من الله إلا بعدًا، وحظهم من اجتهادهم وتعبهم في بدعهم أن تصدهم عن الحق صدًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلاْخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً [الكهف:103-105].
فاحذروا البدع عباد الله وأهلها، فإنهم أعداء السنة النبوية، ودعاة الجاهلية، وهم عباد الهوى، الصادون عن الهدى، فما أشأمهم على أنفسهم! وما أشقى المجتمعات بهم! إنهم دعاة على أبواب جهنم، من أطاعهم قذفوه فيها، فاحذروهم وحذروا منهم، وعادوهم وتقربوا إلى الله بعداوتهم ومقتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً [النساء:105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
|