أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله : كم من الحقوق ضيعتموها وكم من المحظورات ركبتموها، وأنتم مع ذلك تعلمون ما أمر الله به فيها، فإلى متى نظل مهملين وحتى متى نبقى مفرطين :
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
أيها الناس: قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام:104] ، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
أيها المسلمون: إن أعظم رابطة تجمع الناس هي رابطة الدين ، ليس بين المسلمين فحسب ، بل بين كل قوم يجمعهم دين واحد ، ولكن المسلمين يمتازون عن غيرهم بأنهم على الحق وأنهم على صراط مستقيم من الله تعالى .
وإن تفريق الناس حسب أديانهم لهو التفريق الحق، والفاصل المتين بين كل ذوي نحلة وأخرى ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ [التوبة :67] وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة :71].
في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وأهل النيل جيراني
وأينمـا ذكـر اسـم الله في بـلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
لقد جعل الله بين المؤمنين أخوة هي أعظم من أخوة النسب ورابطة هي أقوى من رابطة الدم ، وشرع المولاة على ذلك ورغب في كل ما يزيد منها ويقويها؛ لأن بها قيام الدين وتعاون المسلمين ، ونهى عن كل ما يخل بها؛ لأن في اختلالها فساد الدين وشتات أمر المسلمين: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ % وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا [آل عمران : 102،103].
فانظر كيف قرن الله سبحانه الامتنان على عباده بتينك النعمتين العظيمتين وهما نعمة التأليف بين قلوب المؤمنين ونعمة إنقاذهم بهذا الدين من السقوط في النار ، كما امتن تعالى بذلك على رسوله الأمين فقال: هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ % وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال :62،63].
أجل إن التأليف بين القلوب لا يملكه أحد إلا الله جل وعلا ولذا بين سبحانه أنه لا يمكن أن يكون حتى لو أنفق كل ما في الأرض من أجله إلا أن يشاء الله رب العالمين ، وذلك بأن المشاعر من الحب والأنس والارتياح وكذا البغض والوحشة والنفرة لا يملكها إلا الله – عز وجل – وهو الذي يجعلها حيث يشاء ويصرفها كيف يشاء وإنه ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء كما صح في الحديث .
بل لقد أكد الله – جل وعلا – تلك الأخوة في حال قيام فريق من المؤمنين بقتال فريق آخر منهم ، وليس في حال السلم والود فقط ، فقال سبحانه: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] حتى قال: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].
نعم إنها أخوة باقية ثابتة راسخة حتى بين هذين الفريقين المتحاربين من المسلمين كما جاء بذلك التنزيل المطهر فكيف بتلك الأخوة في حالة مجرد الديار، أو تباعد الأزمان أو في حالة السلم؟ أو حتى في حال خلاف شخصي؟ على أمر من الأمور جليل أو حقير؟
الجواب من عند الله تعالى ليس من عند فلان ولا فلان، ولا نشأ عن مواثيق دولية ولا أعراف قبلية وهو قوله سبحانه: إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. إنما المؤمنون إخوة .
وكما نَطَق بذلك وحكم به رسوله فقال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))، وقال عليه الصلاة والسلام : ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا . . ))، أو كما قال وليس ذلك فقط بل على حين ترى هذا الدين يجمع الأبيض والأسود والعربي والعجمي إذا كانوا من أهله وحملته فإنه يفرق بين الولد وأبيه والأخ وأخيه والقريب وقرابته إذا لم يكونوا على هذا الدين الإسلامي العظيم، أوَما سمعت قوله تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوٰنَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَـٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [التوبة:23] ، وقوله جل ثناؤه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، أوَتظن أمة المسلمين أمرًا سهلاً؟ ، كلا ثم كلا، إنه يجمعهم اشتراكهم في أفضل أمة، وخير كتاب، وأفضل رسول، فربهم واحد، ودينهم واحد، وطريقهم واحد، وهدفهم واحد .
وإن تلك الألفة والأخوة لتبقى معهم في دنياهم وفي برزخهم كما رُوِى أن أرواح المؤمنين تتزاور في البرزخ، بل يجدونها يوم القيامة حين يشفع بعضهم لبعض عند الله فيشفعه في أخيه
ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67].
أوَلا ترى أن الله حرم التهاجر والتدابر بين المسلمين فإن تخاصم المسلمان فلهما فسحة من الوقت بقدر ما يكفي لبرود نار الغضب وزوال حمى الخلاف وذلك ثلاثة أيام فقط ثم يحرم على كل منها أن يهجر أخاه ويدخلا جميعًا في حيز الإثم ودائرة المعصية حتى إن أعمالهما لتحبس فلا تعرض على الله سبحانه لأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((تعرض الأعمال على الله تعالى كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئـًا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا)).
لماذا ؟ لأنهما خدشا خدشًا سهلاً في بناء تلك الأخوة، وتنافر قلباهما، وجعل كل منهما يبغض الآخر متناسيين ما بينهما من أخوة الدين وما ألزم الله به بين المؤمنين فكان جزاء ذلك أن تحبس أعمالهما معًا، فإذا سلّم أحدهما ولم يرد الآخر برئ المُسلّم وحار الإثم على صاحبه .
أوَما ترى كيف جعل الله سلامة الصدر على المؤمنين وعدم إيصال الغش والحقد والحسد على أحد منهم سببًا عظيمًا للفوز بالجنة التي هي مبتغى كل مسلم، فقد أخرج الإمام؟ في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: بينما كنت عند رسول الله قال: ((يطلع عليكم من هذه الثنية رجل من أهل الجنة)) فلما كان من الغد قال مثل ذلك، فلما كان من الغد قال مثل ذلك، فتبعته لأنظر كيف بلغ ما قال رسول الله، فبت عنده فما رأيت له صلاة فوق صلاتنا ولا قراءة فوق قراءتنا ، فسألته كيف بلغت ما قال رسول الله؟ فقال : إني لا أبيت ليلة وفي قلبي غش ولا حقد ولا حسد على مسلم. فانظر – يا رعاك الله – إلى هذا العمل ليس إنفاق بيض الأموال وحمرها ولا تقطيع ساعات الليل بالقيام ولا حبس النفس في الهواجر على الصيام ولكنه أعظم وأشق إلا على من يسره الله عليه بل أخبر رسوله أن تمام الإيمان رهن بقوة تلك الأخوة فإيمانك بقدر ما تجد في نفسك لإخوانك المسلمين ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، أرأيت؟ فكيف تجد نفسك تجاه ما كسبه بعض إخوانك المسلمين؟ وماذا عليك لو أرحت قلبك ولم تحرق أحشاءك ورضيت بما كتب الله لهم وهو العليم الخبير؟ بل ماذا عليك لو رغبت ذلك وأحببته لهم كما تحبه لنفسك؟
عباد الله : إن أمر تلك الأخوة عظيم وغفلة المسلم عنها أعظم ، لقد أخرج رسول الله من المسلمين كل من غشهم في معاملته فقال: ((من غشنا فليس منا)) ، بل أخرج منهم من لم يُجل كبيرهم ويرحم صغيرهم؛ لأن ذلك الرجل ضعفت عنده تلك الأخوة فلم يعد يشعر بأن من حوله أخوة له يأنف أن يغشهم وتنقاد نفسه راضية طيعة لإجلال كبيرهم ورحمة صغيرهم.
إن مدار ذلك على شعور المرء أنه بين إخوة له يحبهم ويحبونه ويحب لهم ما يحب لنفسه ، أو شعوره أنه فرد غريب في وسط غابة من الوحوش وعالم من الأشباح فلا يدخر وسعًا في إظهار نفسه عليهم مهما كانت السبل لذلك ولا يجد غضاضة في تحقير كبارهم أو الغلظة على صغارهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك الشخص ((ليس منا)).
إنك ترى في حديثين اثنين – نذكرهما الآن – ما يبين لك حرص هذه الشريعة الغراء على بناء الأخوة الدينية بين المسلمين والحفاظ على قوتها وتماسكها، وفي المقابل دحر كل ما يضعفها أو يخالف نهجها .
أرأيت قول رسول الله : ((إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه))، فأي أخٍ هذا أتراه أخاه في النسب أم في الوطن أم زميله في العمل أو في تشجيع فكرة معينة أو ناد رياضي هلك به المخذولون؟ كلا وليس ذلك ولا قريبًا من ذلك ولكنه أخوه في الدين الذي أحبه لما يرى منه من طاعة الله ولزوم أمره حين ذاك ينبغي لهذا الشعور الباطن الخفي أن يخرج ويصرح به فيقول: (إني أحبك) وهو موعود على ذلك بوجوب محبة الله له كما قال سبحانه فيما رواه عنه رسوله : ((وجبت محبتي للمتحابين في)).
أرأيت ؟ إن الجزاء على ذلك ليس مالاً ولا عقارًا ولا ولدًا، لكن الجزاء أن يحبك الله جل وعلا فلله أي جزاء هذا ؟!
وفي المقابل ترى قول رسول الله : ((من تعزى عزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا))، وحيث قال رجل عند أبي بن كعب: يا لبني فلان، قال له أبي: اعضض أير أبيك. فقال الرجل : ما عهدناك فاحشًا يا أبا المنذر! قال: بهذا أمرنا رسول الله . فانظر كيف كان ممنوعًا على المسلم أن يجعل لنفسه عصبية الإسلام وحمية لغير المسلمين وعزاء بغير الإسلام من نعرات الجاهلية والقومية والقبلية أو غيرها .
ثم تعاهدت شريعة الإسلام هذا البناء الذي قام بين المسلمين، فجعل الله أعظم الأجر والثواب في رأب صدعه وإصلاح ما فسد منها وشد ما ضَعُف؛ إذ قد أخبر رسول الله أن الساعي في إصلاح ذات البين له أجر الصائم القائم قال: ((فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين )).
فتَبصَّر – بَصّرك الله بالحق – كيف جعل قيام بناء الأخوة وتحققها في قلوب المؤمنين أساسًا لقيام الدين وسلامته وجعل فساد ذات بينهم ونفرة قلوب بعضهم من بعض لا تُضْعِف الدين فقط بل تحلقه كما يحلق الشعر. فأي أمر غفلنا عنه وأي رابطة فرطنا فيها ؟ وأي عروة أطلقتها أيدينا؟!!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . . . . إلخ.
|