أما بعد: فإن المؤمن الموحد المحسن حبه لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم إنه حب المملوك لمالكه حب العبد لسيده حب المخلوق المقهور الضعيف لله الواحد القهار. ولذلك فإن المحبين الصادقين هم في هذا المقام في مقام المحبة هم في مقام موزون بين الرجاء والخوف.
فرجاؤهم معلق برحمة الله تعالى ولا يخافون إلا الله هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في قوله سبحانه: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء:57]. وهم يتقربون إلى الله تعالى بحبه وبفعل ما يحبه ويرجون رحمته ومع ذلك يخافون عذابه.
فبين سبحانه في هذه الآية أن الملائكة والأنبياء وعباد الله الصالحين يتقربون إلى الله تعالى بحبه ويرجون رحمته ويخافون عذابه فهم في مقام حبهم لله في مقام موزون بين الرجاء والخوف. وذلك لكمال عبوديتهم لله تعالى وإجلالهم وتعظيمهم إياه.
لكن المحبة إذا خلت من الإجلال والتعظيم تحولت إلى نوع لا يليق بهذا المقام فيقع المحب إذًا في التدلل وفي سوء الأدب مع محبوبه.
قال أحد العباد الجاهلين الذين جهلوا هذا المقام قال هذه القولة الشنيعة: ما عبدتُ الله طمعًا في جنّته ولا خوفاً من عذابه إنما عبدته حباً في ذاته.
هذا جهل بهذا المقام وسوء أدب مع المحبوب، وزاد في سوء الأدب مع الله فقال:- وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت تمتحني؟
يا لجرأة هذا العبد المسكين، يا لجرأته وجهله بهذا المقام جرأته وسوء أدبه مع مقام المحبوب، إنه جبار السماوات والأرض، الله الواحد القهار لا يتدلل أحد من عبيده، عليه الأدب في محبته معه. كيف يتدلل العبد المقهور المملوك على الواحد القهار، ومع هذا ذلك العبد المسكين يقول: يا رب، إن حبي كله لك ليس لغيرك منه نصيب، فامتحن حبي إن شئت امتحنه كما تريد فإني لا أخاف ذلك، وامتحنه ربه ابتلاه سبحانه وتعالى، ذُكِرَ أن هذا العبد المسكين امتُحن بأن حبس الله بوله فأصيب بعسر البول، فكان كلما اشتدت عليه هذه المصيبة يطوف على الصبيان الصغار في الكتاتيب يقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب.
وقد ذكر فيما مضى قصة نبي الله وعبده الصالح يونس عليه السلام، مع الفرق بين الرجلين والفرق بين الهفوتين، ذلك نبي كريم عالم بربه لكن هفوته قد تبدو لنا قليلة دقيقة عاقبه بها ربه وابتلاه ذلك البلاء.
لما أذن يونس عليه السلام متكلاً على محبة ربه ومقامه عند ربه. إذن لما ذهب مغاضبًا. انظر كيف ابتلاه الله تعالى وهو نبي كريم وعبد صالح وعابد صادق ابتلاه بأن حبسه في بطن الحوت.
لا يتدلل أحد من العبيد على الله الواحد القهار.
الصحابة الكرام وهم أكرم هذه الأمة بعد نبيها وهم من هم في مقام إيمانهم وعلمهم وعملهم مع ذلك رباهم الله تعالى قال تعالى: ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [آل عمران:143].
لذلك كان سيدنا رسول الله يعلم أصحابه الكرام ألا يغتروا بأنفسهم لا يغتروا بمقامهم لا يغتروا بقوة إيمانهم، لا يغتروا بحسن عملهم فيتمنوا لقاء العدو قال لأصحابه الكرام: ((لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاثبتوا)).
فلا يغتر العبد بهذا المقام، العبد المحب لله تعالى إذا أصابه الغرور وذهب الخوف من قلبه حُرم من هذا المقام، هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أعظم المحبين لله تعالى، ومع ذلك كانوا في مقام حبهم في مقام موزون بين الرجاء والخوف يرجون رحمة الله ويخافون أشد الخوف من عذابه.
في الصحيح أن النبي قال: ((أما إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وكان إذا قام يصلي لربه يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من شدة البكاء بين يدي ربه وخوفًا من ربه سبحانه وتعالى، هذا مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولكنه لعلمه بربه وبعظيم قدره وسلطانه وعظيم عقابه وشديد عذابه، كان أشد الناس خوفًا منه سبحانه وتعالى.
وكلما كان العبد أعلم بالله كان أخوف له. قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28].
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :وكفى بخشية الله علمًا.
المؤمنون الموحدون المحسنون العالمون بربهم عز وجل يخافون الله أشد الخوف لأنهم سمعوه يأمرهم بذلك قال تعالى في كتابه: وخافوني إن كنتم مؤمنين [آل عمران:175].
وقال سبحانه: فلا تخشوا الناس واخشون [المائدة:44].
ويخافون ربهم عز وجل لما يعلمون من أنه سبحانه وتعالى يقلب القلوب.
هؤلاء المؤمنون الموحدون المحسنون المستقيمون في أعمالهم على طريق المحبة والاستقامة ومع ذلك يخافون ربهم أشد الخوف، لما يعلمون من أنه يقلب القلوب فالقلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء.
قال سبحانه: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفال:24].
فمن ذا الذي لا يخاف على قلبه من تقلب الحال وعلى نفسه من انحياد المآل.
لذلك كان وهو أكرم الخلق على الله كان يُكثر في يمينه أن يقول: ((ولا مقلب القلوب)) وكان يقول في دعائه : ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
ويخافون ربهم عز وجل أشد الخوف لما يعلمون أيضًا من أن عملهم قليل، يخافون منه أشد الخوف فرقًا من أنه لا يقبل عملهم الصالح. فهم مشفقون من ذلك أشد الإشفاق وقلوبهم وجلة قال تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [المؤمنون:60].
فالمؤمن الحق الصادق الموحد المحسن يخاف ألا يُقبل عمله، لا يغتر بعمله إنه يعلم أنه لن ينجو بعمله إنما ينجو برحمة الله تعالى ومنه وكرمه وعفوه.
وإن كان سبحانه وتعالى قد جعل العمل سببًا للنجاة ولكن العمل ليس مقابلاً للنجاة فلو كان الأمر على سبيل المقابلة ما استحق عبد أن ينجو بعمله مهما كان مقامه.
قال : ((لن ينجي أحدًا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال :ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
فالمؤمن لا يغتر بعمله أيضًا لأنه يعلم أن النجاة معلقة برحمة الله تعالى ومنّه وكرمه.
المؤمنون الموحدون المحسنون يخافون ربهم أشد الخوف، ولا يزالون في خوف من الله تعالى مازالوا في هذه الدنيا، لا يذهب الخوف من قلوبهم حتى يستقروا في جنته هذا إذا أكرمهم الله عز وجل فأدخلهم في مستقر رحمته وأسكنهم جنته، حين ذلك فقط يذهب الخوف من قلوبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أما ما داموا في هذه الدنيا في هذه الحياة فهم في خوف دائم على أنفسهم لأنهم يعرفون قدر أنفسهم.
هذا حال المستقيمين منهم الذين أعرضوا عن المعاصي فما بالك بالمذنبين الذين يعلمون جناية أنفسهم وتفريطهم في جنب الله تعالى، ما أحراهم أن يكونوا أشد خوفًا لله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانوا يعرفون ربهم فإنهم حينئذ يعلمون أن ربهم سبحانه وتعالى ما أغير منه، إنه يغار أن تُنتهك محارمه.
وأخوف ما يخاف الموحدون المذنبون من أن يُحرموا من التوبة فذلك من أعظم العقوبات أن يجد العبد المذنب باب التوبة موصدًا أمامه فلا يوفق إلى التوبة أبدًا والعياذ بالله. هذا من أعظم العقوبات وهو من أخوف ما يخاف المؤمن الموحد المذنب على نفسه، فالمؤمن الموحد هو في خوف من الله تعالى شديد ورجاء في رحمته كبير ولذلك فإن لإيمانه بالله تعالى مقاماً موزوناً، ولمحبته لله تعالى مقاماً موزوناً بين هذين المقامين.
أما ذلك العابد الجاهل المسكين الذي لا يطمع في جنة ربه ولا يخاف من عذابه فقد أخطأ هذا المقام وحُرم من هذا المقام، أخطأ في دعواه المحبة فإن المحب الصادق الذي يعرف ربه فهو في خوف ولا يأمن على نفسه أبدًا حتى يستقر في جنة ربه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.