يتعاقب الليل والنهار، ويتعاقب فيهما الظلام والنور، فمن ظلمة يعقبها نور، ثم ظلمة، ثم نور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهكذا حال المسلمين؛ الفتن تقع خلال بيوتهم كوقع المطر، وما من زمان يمر عليهم إلا والذي بعده شرّ منه، حتى يلقوا ربهم عز وجل.
ولكن الله سبحانه رؤوف بعباده، رحيم بهم، فلا يبقى الظلام دامسًا من حولهم فيقنطوا من رحمة الله، فبين الفترة والفترة يبرز لهم نور يضيء لهم الطريق ثم يخبو ليعود الظلام.
ومن خلال هذا الظلام سيبرز نور يبدد الظلمة، هذا النور بشر به رسول الله المسلمين، وهو رجل من أهل بيته، وصفه رسول الله بصفات بارزة، أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام، فقال : ((لو لم يبقى من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلًا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا))، وأخبر عنه أنه من أهل بيته فقال: ((المهدي من عترتي من ولد فاطمة))، وأخبر أن تهيئته للخلافة وإصلاحه يتم في ليلة فقال: ((المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة)). وقال ابن كثير: "أي: يتوب عليه ويوفقه ويفهمه ويرشده بعد أن لم يكن كذلك".
وأخبر رسول الله عن صفاته الخلقية فقال: ((المهدي مني، أجلى الجبهة -واسع الجبهة-، أقنى الأنف -وهو طول الأنف مع دقته-، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين)).
وأكد رسول الله حتمية خروج المهدي فقال: ((لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلًا من أهل بيتي، يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا)). وأخبر رسول الله أن خروجه يكون عند اشتداد الظلم والجور والعدوان فقال: ((وأنه سيملك بضع سنين، وفي وقته تكثر الماشية، وتعظم الأمة، ويفيض المال))، فقال: ((يمكث فيكم سبعًا أو ثمانيًا، فإن أكثر فتسعًا))، وقال: ((يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحًا -أي: يقاسمهم قسمة صحيحة فله النصف ولهم النصف-، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة)).
وأخبر أن عيسى ابن مريم عليه السلام سيصلي خلفه، وهذه فضيلة كبرى له، وأن ظهوره يتبعه ظهور آيات الساعة العظام.
أيها الإخوة، إن الاعتقاد بحتمية ظهور المهدي آخر الزمان أمر ثابت شرعًا وعقلًا، ويتفق عليه أهل السنة، لكن متى؟ الله أعلم، ونحن نقول هذا الكلام لأنه بين كل فترة وأخرى تظهر كتب ونشرات ومقالات تتكلم عن قرب ظهور المهدي في هذا الزمان، ويظهر أشخاص كذلك يقومون بادعاء المهدي، ويبدو أن هناك أسبابًا لذلك منها:
أولًا: شيوع الفتن والمنكرات.
ثانيًا: سقوط بعض الأنظمة والحكومات في العالم الإسلامي.
ثالثًا: تحقق وقوع كثير من أشراط الساعة الصغرى.
رابعًا: الاضطهاد العالمي للإسلام وأهله في مقابلة ضعف الأمة، وهذا واضح لكل ذي عينين، فقد دق الغرب الصليبي طبول الحرب على المسلمين في فلسطين وأفغانستان والعراق والسودان وغيرها، وحارب المسلمين في أرضهم وثرواتهم وخيراتهم، بل وحتى في معتقداتهم.
خامسًا: الحرب الشرسة والمدمرة على إخواننا الفلسطينيين من اليهود المعتدين، والتي لم توقر رجلًا ولا امرأة ولا طفلًا ولا دابة ولا شجرة ولا حجرًا، حتى المنازل والمساجد والمدارس، وكل ذلك يحدث في ظل عجز أكثرية المسلمين عن فعل أي شيء ملموس يرد عنهم وعن كرامتهم وعن دينهم الذي كُلفوا بحمايته والدفاع عنه.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة وفي ظل المعاناة والتقصير والعجز يقوم البعض بالتطلع إلى الخيال، إلى فارس الأحلام، وهو في نظرهم سيظهر في صورة مهدي يصوغه خيالهم وتشكله أحلامهم ورغائبهم، يؤمنون به رغم أن كل القرائن تؤكد أن المهدي الذي وردت الإشارات إليه في كتب السنة لم يظلنا زمانه، نعم لم يأت زمانه، بل كثيرًا ما خرج هنا وهناك من يزعم أنه المهدي بشحمه ولحمه ومواهبه، ثم يتمخض الجبل فيلد بدعًا ومنكرات وتنكبًا للسنة، بل ربما ولد كفرًا وضلالًا وزندقةً.
أيها الإخوة، إن واقع المسلمين اليوم لا يحتاج علاجًا سحريًا، بل يحتاج إلى قادة رعاة يملكون من الوعي القيادي ما يستطيعون من خلاله أن يقودوا الأمة نحو مرفأ السلامة وشاطئ الرشاد دنيا وأخرى.
الأمة في حاجة إلى رموز جماعية، إلى رمز يشبع في الأذهان فكرة فارس الأحلام، إلى رمز يكون رجلًا تقيًا واعيًا وأبًا رفيقًا حانيًا وعالمًا ربانيًا، فوق الطعن والهمس، فإن فكرة الارتباط مهمة، وفكرة توفر الرمز كذلك مهمة، فإننا نرى المسلمين صغارًا وكبارًا لا يزالون يستنجدون برموز الأمة الموتى كصلاح الدين الذي أرّقناه في مضجعه من كثرة ندائنا له، وكعماد الدين زنكي وقطز وابن تيمية وآخرين ممن يستحيل أن ينجدوا أحدًا حتى قال الشاعر:
كم مرة في العام توقظونه؟
كم مرة تحت سياط الجبن تجلدونه
وغاية الخشونة أن تهتفوا: قم يا صلاح الدين قم
حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه
فإنه لو قام حيًا بينكم فسوف تقتلونه
نعم، إن كثيرًا من المسلمين اليوم في غمرة الاندفاع العاطفي وزحمة الأحداث المتلاحقة يتناسون أو قد يجهلون سنن التغيير التي أودعها الله في كتابه أو أجراها على لسان نبيه، ومن ذلك أن انتظار مجددٍ ما أو مصلح ما ليقوم بالتغيير وحده، هذا الانتظار هو عبث ولا طائل من ورائه.
نحن نحتاج في هذا العصر إلى أن يعتمد المسلمون بعد الله على كل شرائح المجتمع من القمة إلى القاعدة، الذين يلتفون حول علماء فقهاء يعملون بفقههم وتفكيرهم سنن التغيير وتحويل المجتمعات والتأثير فيها، وبخاصة ما نحن فيه من تعقيدات هذا العصر، هذه القوة والمنعة هي التي افتقدها نبي الله لوط عليه السلام حين قال كما حكى الله عنه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، فقال رسول الله : ((رحم الله لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد، وما بعث الله بعده نبيًا إلا وهو في ثروة من قومه)).
وإذا كان الأنبياء يؤيَّدون بثروة من قومهم وهي القوة والمنعة في العدد والعدة وهم مع ذلك مؤيدون بالمعجزات وخوارق العادات فكيف بغيرهم الذين يريدون التغيير بالعشرات أو المئات ويقولون: نحن نتوكل على الله! ولا شك أن المسلم يطلب العون من الله ويتوكل عليه، والله سبحانه وعد المسلمين بالنصر، ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن أهمها تجميع القوى التي تناصر وتعاضد.
ترى هل درس المسلمون ذلك بعمق وأناه، أم أن مقولة نعمل والنتائج على الله لا تزال هي الشائعة والأكثر قبولًا ورواجًا؟! مع أنها ظاهريًا صحيحة لكنها كلمة حق تستخدم في غير محلها، فالقول بأننا نعمل يجب أن يمحص؛ إذ ما يدريك أن عملك صواب وصحيح قد أخذت فيه بالأسباب. نعم، إذا بذل الجهد الصحيح فالنتائج على الله، أما أن يُعمل أي عمل ثم يُقال: النتائج على الله، فهذا ضرب من حب السهولة وهروب من النقد، وحتى نستريح نفسيًا من اللوم والتقريع، وحتى مع توفر عنصر الإخلاص في هذا العمل فهذا لا يكفي، فلا بد من معرفة سنن الله في التغيير.
هكذا يجب أن تُفهم الأمور، لا كما فعل البعض من الذين يعيشون على الأحلام والرؤى والأماني الفارغة وانتظار المجهول، ثم قالوا للناس: ما عليكم، المهدي سيخرج، وسيقوم بحل كل مشاكلكم. ثم قاموا بالربط بين الأحاديث الواردة عن المهدي وغيره من أحوال آخر الزمان وأشراط الساعة وبين حال العالم في زمننا هذا، ورتبوا بعضها على بعض، وليس هذا فحسب، بل بنوا على ذلك أمورًا نتج عنها فتن جسيمة وانتهاك للحرمات كما حدث في الحرم المكي قبل فترة من الزمن، والمخرج من ذلك والمنهج الصحيح هو أن نترك الواقع نفسه يفسر لنا هذه الأحاديث حتى لا نرجم بالغيب أو نقفو ما ليس لنا به علم، اقتداءً بعلماء السلف الصالح الذين أدوا إلينا هذه النصوص بكل صدق وأمانة، ولم يقحموا الظنون في تعيينها وترتيب بعضها على بعض بمجرد الرأي.
ولئن وقع منا تردد في: هل زماننا هو زمان ظهور المهدي؟ فلا ينبغي أن نتردد في الجزم أننا سواء كان هذا زمان ظهوره أو لا ملزمون بكافة التكاليف الشرعية من طاعة لله والجهاد في سبيله وطلب العلم والدعوة إلى دينه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك كله وغير ذلك من الواجبات.
فما يتوهمه بعض الكسالى من أن ظهور المهدي سيكون بداية عصر الاسترخاء والدعة باطل، بل النصوص تشير إلى أنه سيكون بداية للفتوح والجهاد والبذل في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل.
أيها الإخوة، إن الإسلام قادم بنا أو بغيرنا، بالمهدي أو بغيره، فهذا وعد صادق قد وعدنا الله به، قال : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل به الكفر))، ولم يربط النبي حصول هذا بالمهدي ولا بغيره، فهل يفهم المسلمون ذلك؟!
|