عباد الله، لقد عقد الله تعالى بين العرب والإسلام، ثم بين الحجاز والأمة الإسلامية، ثم بين الحرمين الشريفين وقلوب المسلمين للأبد، وربط مصير أحدهِما بالآخر، وقد حرص النبي على بقاء هذا الرباط الوثيق وسلامة هذا المركز وهدوئه وشدة تمسكه بهذا الدين؛لأن هذه العاصمة يجب أن تكون بعيدة عن كل تشويش وفوضى وكل صراع عقائدي وديني، فشرع لذلك أحكامًا بعيدة النتائج، واسعة المدى، وأوصى وصايا دقيقةً حكيمة وأخذ لذلك من أصحابه وأمته عهودًا ومواثيق، فكان من آخر ما عهده النبي لأمته وهو على فراش الموت لتبقى الجزيرة وأهلها مصدر الإشعاع لنور الإسلام على العالم؛ فإنه كلما قوي هذا النور امتد هذا الإشعاعُ، وكلما ضعف وتضاءل في هذه الجزيرة وأهلها تقاصر.
عباد الله، ومن تلك الضمانات والدعائم لحفظ هذه الجزيرة وأهلها من كل دخيل مفسد، أو عنصر مفرق، أو غزو مدمر:
أولًا: أنه كما تكون المحافظة على الحدود المكانية لأي إقليم ولائي فإن المحافظة على الحدود الشرعية والخصائص المرعية وصيانتِها لهذه الجزيرة واجبة كذلك على من بسط الله يده عليها ومن عليه بالعمل فيها ولأجلها أيا كان حاله ومهما بلغت منزلته.
ثانيًا: أن سلطان الحاكميةِ فيها لا يجوز أن يكون لغير دولة التوحيد وراية التوحيد، ومن عجائب المقدور ولطائف الحي القيوم لهذه الأمة المرحومة إن شاء الله صار العلم الولائي في قلب هذه الجزيرة يحمل كلمة التوحيد، وهكذا كان اللواء الأبيض للنبي مكتوبًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا تساس الأمة بغير شرع الله وأيُّ شقاء أو فساد فهو بسبب ما يُصَبُّ على الأمة من تحلل وانحلال في إقامة الدين بين العباد.
ثالثًا: إزالة التناقض بين إسلامية هذه الديار القائمة منذ فجر الرسالة وإلى يومنا هذا، وبين كل ما ينافسها في مجال الإعلام والتربية والمظاهر الاجتماعية من اندفاع محموم إلى التسلية والأغاني والملاهي والبرامج المستوردة التي أَفْلَتَ منها الزمام من يد المربين والآباء والأساتذة والعلماء، والتي لا يحتفظ معها أي شعب بالبقية الباقية من الشعور الديني والحصانة الخلقية، ولا يستعد للطوارئ والمفاجآت ولا يتحملُ أقل صدمة أو خطر من الخارج.
رابعًا: إذا كانت الشريعة الإسلامية أمرت بإخراج المشركين من هذه الجزيرة، وعدمِ الرضا بأي كيان لهم فيها لتبقى هذه الديارُ ديار إسلام، وأهلُها مسلمين، فتسلمُ قاعدة المسلمين ويسلمُ قادتُهم من أي تهويد أو تنصير، فالحكم ليس قاصرًا على إخراج أجساد المشركين فحسب، بل هو أبعد من ذلك، فيشملُ إخراج نفوذهم وتوجيههم وحضارتهم ودعوتهم وتياراتهم المعادية للإسلام وكل ما يهدد أخلاقيات هذه البلاد وينالُ من كرامتها.
خامسًا: جزيرة العرب هي بارقة الأمل للمسلمين في نشر عقيدة التوحيد؛ لأنها موئل جماعة المسلمين الأول، وهي السور الحافظ حول الحرمين الشريفين، فينبغي أن تكون كذلك أبدًا، فلا يسمح فيها بحال بقيام أي نشاط عقدي أو دعوي مهما كان تحت مظلة الإسلام؛ مخالفًا منهاج النبوة الذي قامت به جماعة المسلمين الأولى: صحابة رسول الله ، وجدَّده وأعلى مناره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فالجماعة واحدة تحت عَلَم التوحيد على طريق النبوة لا تتوازعهم الفرق والأهواء، ولا الجماعات والأحزاب. فعلماء المسلمين وقادتهم في كل زمن وبلد شديدو الحساسية لما يقعُ فيها من حوادث، ولما يجري فيها من تيارات، دقيقو الحساب لمدى تمسكها بالتعاليم والآداب الإسلامية ومحافظتها على الروح الدينية والعاطفة الإسلامية، وقد قال الشيرازي المتوفى سنة 691ه: "إذا بدأت طلائع الفساد والانحرافات من فناء الكعبة ورحاب البيت الحرام فعلى الإسلام والمسلمين السلام".
سادسًا: يجب تعميق الرابطة الدينية، ثم يجب جذم جذور العصبية لغير الكتاب والسنة مهما ظهرت في أي مسلاخ، فهي عصبيات جاهلية منتنة، تثير الشغب، وتشعل الفتن، وتضرم المشاكل وتزرع الإحن، سواء أكانت عصبيةً قبلية، أم عصبية رياضية أو سواهما.
سابعًا: هذه الجزيرة مضافة إلى أهلها العرب، والاعتبارُ لهم بالإسلام، فلتبق للعرب والمسلمين نسبًا ولسانًا ودارًا حتى لا تكون الإضافة شبه صورية، وإنه لِعالي مكانتِهم تُعقد الآمال بناصيتهم، فينبغي أن تأتي وفود الإسلام إلى معقله جزيرةِ العرب حجاجًا أو عمارًا أو زائرين أو عاملين، فيرتوون من التوحيد الصافي من أي شائبة ليعودوا إلى أهليهم من المسلمين: دعاةَ توحيد وبُناةَ عقيدة.
ثامنًا: ويجب أن يكون دور حراس الشريعة في هذه الجزيرة من منجزات الحضارة الحديثة في الطب والهندسة والاقتصاد والسياسية هو دَورُ الأصالة والتجديد، لا دَور التبعية الماسخة، والوأدِ الخفي لمقومات البلاد الأساسية. وعليه فبعث روح الاكتساب والعمل والجد والتحصيل والتخصص في هذه العلوم من أهم المهمات لبناء الحياة في هذه الجزيرة على يد أبنائها، فهم أسلمُ لها، وأصلحُ لحالها من الدخلاء عليها.
تاسعًا: حمل أهل الجزيرة على الحماس الديني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعميق التقوى، والشوقِ إلى الترقي لحماية الشريعة، ومن الأولويات: شكر هذه النعم ببسط لسان التذكير، وقلم التدوين بما أفاء الله عليهم وأنعم من هذه الخصائص وأن من شكرها المحافظةُ عليها، وحفظها وإعمال الحياة في قالبها، وأن أي تشويش عليها خدش لها، ونقص لشكرها، وأخيرًا غياب لمزية القدوة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله...
|