أما بعد: عباد الله محاسبة النفس أمر مطلوب من كل مسلم.
محاسبة النفس أمر عظيم ينبغي أن يسعى إليه كل مسلم وكل مؤمن ليملك قياد نفسه وزمامها ليضبط سيرها وليكبح جماحها يدفعها إلى الطاعة ويردعها عن المعصية فيعرف ربحه من خسارته ولا يستطيع ذلك إلا إذا كان محاسبًا لنفسه.
ومحاسبة النفس يا عباد الله أمر عظيم يسهل الكلام عنه بالألسنة ولكن القيام به من أعظم الأمور.
فإذا قام الإنسان على محاسبة نفسه استطاع أن يعرف مقدارها.
ومن أجل ذلك يا عباد الله يكون المؤمن في جهاد مع نفسه لا ينقطع وفي صراع دائم لا ينتهي حتى تألف النفس طاعة ربها وتعتاد السير في سبيل الله المستقيم والانتهاء عن سبل الشياطين.
عند ذلك يسهل ضبطها ومحاسبتها وإن لم يكن ذلك وأطلق لها العنان فسوف تستعذب الباطل وتحب المعاصي والمنكرات حتى تصل إلى غضب ربها سبحانه وتعالى.
وكلما قام الإنسان على محاسبة نفسه أحبت الطاعة وأقبلت عليها واستأنست بها وبأهلها وكلما أهمل الإنسان محاسبة نفسه كلما كرهت الطاعة وأنست بالمعصية وأحبت أهلها.
يقول الله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:37-41].
والله تعالى يقسم بالنفس اللوامة وهي التي تلوم صاحبها إن قصّر في خير أو اقترف شر: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة [القيامة:1-2].
يقول الحسن رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (إن المؤمن والله لا نراه إلا وهو يلوم نفسه ما أردتُ بكلمتي ما أردتُ بأكلتي ما أردتُ بحديث نفسي أما الفاجر فيمضي قُدُمًا قُدُمًا لا يعاتب نفسه).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أنها تذكر الإنسان وتبعث فيه الاستعداد للقاء الله عز وجل الذي سوف يكون بين يديه الحساب ولا حول ولا قوة إلا بالله ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم غدًا في الحساب أن تحاسبوها وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله إنها تعرِّف الإنسان بنعمة الله عليه فيشكرها ويستخدمها في طاعة الله ويحذر من التعرض لأسباب زوالها: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].
والله تعالى يقص علينا قصة صاحب الجنة حينما افتخر على صاحبه بالمال والولد وما ذكرّه به صاحبه مما قصه الله تعالى في كتابه فقال: ولولا إذا دخلت جنتك قُلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك ولدًا فعسى ربي أن يؤتيني خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا من السماء فتصبح صعيدًا زلقًا أو يصبح ماؤها غورًا فلن تستطيع له طلبًا [الكهف:40-41].
وتُعرِّف المؤمن بنعمة الله عليه في الابتلاء فيصبر لذلك ويحتسبه عند الله تبارك وتعالى كما روي عن عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال : (ما أصابتني مصيبة إلا وعلمتُ أن لله علىّ فيها ثلاث نعم:
الأولــى: أن الله تعالى خففها وهو قادر على أن يصيبني بأعظم منها.
والثانية: أن الله تعالى جعلها في دنياي ولم يجعلها في ديني.
والثالثة: أن الله تعالى يدخر لي الأجر عليها يوم القيامة).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن هذا يساعد على ترويضها والسلوك بها في السبيل المستقيم والحد من نزواتها وشهواتها ومن تعصبها وإعجابها فما ترى إنسانًا يحاسب نفسه ويراقبها إلا وهو سريع الاستجابة لأمر إلهه وكثير الحذر مما يغضب الله وسريع الرجوع إلى الحق إذا علمه وتبين له وكلما أطلق الإنسان لنفسه زمامها ولم يقم على محاسبتها كلما تغلبت عليه الأهواء والشهوات والمعاصي والمنكرات حتى تتغير موازينه ومقاييسه ويقع فيما حذر منه رسول الله : ((حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العامة)).
ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن الإنسان يعرف بذلك مقدار نفسه فيتخذ الشيء الذي يراه مناسبًا لإصلاحها ولا صلاح لها إلا بما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى وما جاء في السنة الصحيحة عن رسول الله . وما أُثر عن العلماء الصالحين المخلصين العاملين.
روي أن الشافعي رحمه الله تعالى مرض مرضًا شديدًا فقال: اللهم إن كان هذا لك رضًا فزده فبلغ ذلك إدريس الخولاني رحمه الله تعالى فبعث إليه فقال: يا عبد الله لستُ أنا وأنت من أهل البلاء.
فأرسل إليه الشافعي رحمه الله تعالى: يا أبا عمر ادع الله لي بالعافية.
وإذا أراد الإنسان أن يقيم في نفسه هذا الأمر. وإذا أراد أن تقوم لديه المحاسبة للنفس لتنبعث في نفسه خشية الله عز وجل والخوف من عذابه والرجاء فيما عنده فليكثر من قراءة سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان في كل زمان ومكان ليعرف كيف كانوا مع أنفسهم وكيف كانت محاسبتهم لها لعل ذلك يساعده على محاسبة نفسه ومراقبتها.
الرسول يقول لابن مسعود رضي الله عنه: اقرأ علىّ القرآن فيقول بن مسعود: اقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا [النساء:41].
قال حسبك قال بن مسعود رضي الله عنه: فنظرتُ فإذا عينا رسول الله تذرفان.
فلو كانت محاسبة النفس قائمة في قلوبنا اليوم لذرفت أعيننا من خشية الله تبارك وتعالى ومن الخوف منه وطمعًا في الرجاء لما عنده.
وخليفته الصديق رضي الله عنه يقول وقد دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يزجر لسانه فقال له عمر: (مه ما هذا الذي تفعله يا أبا بكر؟). قال أبو بكر رضي الله عنه: (إن هذا أوردني المهالك).
ولما قدم قوم من اليمن في زمانه كانوا إذا سمعوا القرآن يبكون فقال: (كنا هكذا ولكن قست القلوب).
وعمر رضي الله عنه يقول: (لولا ثلاث لوددتُ أني قد لقيتُ الله لولا أن أضع جبهتي لله ولولا أن أجلس مجالس يُنتقى فيها طيب الكلام كما ينتقى طيب التمر، ولولا أن أسير في سبيل الله عز وجل).
وهو الذي قال رضي الله عنه: (وددتُ أني كبش لأهلي يسمنونني حتى أكون أسمن ما أكون يقدم عليهم قوم يحبونهم فيذبحوني ويقدموني فيجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا ثم يأكلونني ولم أكن بشرًا). وهو الفاروق رضي الله عنه.
وهو الذي يقول يوم دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين بعدما طُعن رضي الله عنه قال له: (أبشر يا أمير المؤمنين فإن الله قد مصّر بك الأمصار وقضي بك على النفاق وأفشى بك الرزق) قال له: (أفي الإمارة تثنى علىّ يا بن العباس؟) قال: (إي والله في غيرها). قال: (والله لوددتُ أني خرجتُ منها كما دخلتُ فيها لا أجر ولا وزر) ويقول رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لو قام في الناس منادي: يا أيها الناس إنكم من أهل الجنة أجمعون إلا رجلاً واحدًا لخفتُ أن أكون أنا هو، ولو قام منادي وقال: يا أيها الناس ادخلوا أجمعين إلى النار إلا رجلاً واحدًا لرجوتُ أن أكون أنا هو) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ونسأل الله أن يتبعنا آثارهم وأن يحشرنا في زمرتهم.
وعثمان رضي الله عنه يقول: (لو كنتُ بين الجنة والنار ولا أعلم إلى أيهما يُؤمر بي لوددتُ أن أكون رمادًا ولا أعلم إلى أيهما أصير).
وهو الذي يقول: (وأيم الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام وما ازددت بالإسلام إلا حياءً).
وعليّ رضي الله عنه الذي سبق أن ذكرنا قوله وهو يخاطب الدنيا: (إلىّ تغرغرت إلىّ تشوفت هيهات هيهات غُري غيري قد بتتك ثلاثًا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق).
وغيرهم من الصحابة ومن التابعين ومن الذين تبعوهم بإحسان في كل زمان ومكان يحاسبون أنفسهم قبل أن يردوا إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
نشكو إلى الله ضعفنا ونسأله أن يرحم ضعفنا ويغفر خطايانا أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|