أما بعد: عباد الله الحياة الطيبة مطلب عظيم وغاية نبيلة هي مطلب كل الناس وغاية جميعهم عنها يبحثون وخلفها يركضون وفي سبيلها يضحون ويبذلون، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وتراه يسعى ويكدح ويضني نفسه ويجهدها كل ذلك بحثًا عن الحياة الطيبة وطمعًا في الحصول عليها والناس جميعًا على ذلك متفقون ولكنهم يختلفون في مضى هذه الحياة وفي نوع هذه الحياة الطيبة وتبعًا لذلك فإنهم يختلفون في الوسائل والسبل التي توصلهم إلى هذه الحياة إن وصلوا إليها.
مختلفون على كافة مستوياتهم كانوا أممًا أو شعوبًا أو مجتمعات صغيرة أو كبيرة، بل حتى الأسرة الواحدة تجد فيها ألوانًا شتى فتجد الأب تجد أن للحياة الكريمة والحياة الطيبة عند الأب في كثير من الأحيان معنى يختلف عن الحياة الطيبة عند ولده، وتجد أن للحياة الطيبة معنى عند الأخ يختلف عن معناها عند أخيه وقد تجد أن للحياة الطيبة معنى عند الزوجة يختلف عن معنى الحياة الطيبة عند زوجها وكم قامت من أجل ذلك خصومات ومشاكل.
وللناس في كل زمان أفهام حول هذه الحياة الطيبة وهم تبعًا لذلك أصناف فمنهم من يرى الحياة الطيبة في كثرة المال وسعة الرزق وأنه إذا توفرت له هذه الأمور فإنه في حياة طيبة وحياة كريمة فهو يسعى في ذلك ويجهد نفسه ويسلك كل الوسائل التي يرى أنها تمكنه من الحصول على مطلبه، بل بعض الناس يجعل من هذه الغاية مبررًا لكل وسيلة فيتخذ كل ما خطر بباله ويرى أنه يوصله لهذه الغاية ولو كان مما حرم الله تبارك وتعالى.
إن كان من قبيل الربا أقدم ولا يبالي حتى ولو ذُكر بقول رسول الله : ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)).
يسعى إلى المال ولو كان من قبيل الرشوة وحتى ولو ذكر بقول الرسول : ((لعن الله الراشي والمرتشي والمرشي والساعي بينهما)) أو كما قال .
يسعى للحصول على المال ولو كان بأكل أموال اليتامى ظلمًا، يسعى للحصول على المال ولو كان في أكل أموال الناس بالباطل، يسعى للحصول على المال ولو كان بالغش والأيمان الكاذبة والحيل المحرمة، كل ذلك بغية أن يحصل على مقصوده ليحصل على ما يراه من حياة طيبة، يضني نفسه ويجهدها، ويضني من تحت يده ويجهدهم بل ويظلمهم وبعضهم قد يصل إلى الذين حذر الله ورسوله منهم بقوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة:55].
يسعى ويرى أن غيره لا يعرف ممن لم يكن على شاكلته يرى أنهم لم يعرفوا معنى الحياة الصحيحة بعد ولم يذوقوا لها طعمًا. وقليل من الناس من يكسب المال من حله ويحرص على أن يضعه في حله ويجعله معونة على طاعة ربه حتى لا يفتنهم في دينهم.
أما الكثير فإنك تراهم لا راحة لهم في أبدانهم ولا طمأنينة لهم في أنفسهم إذا انخفضت الأسعار تمزقت قلوبهم جزعًا وإن ارتفعت الأسعار تقطعت قلوبهم طمعًا فهم على نارين لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار يعيشون مفتونين في حياتهم يصيبهم الضنك في هذا المال وتصيبهم الشدة وبين أيديهم الأموال يسارعون في أعمال الدنيا ولكنك تراهم يقدمون أكل أموال الناس على طاعة الله تبارك وتعالى هؤلاء لهم موقف بين يدي الله عز وجل ويكفي أن يكون السؤال بين يدي علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية يعلم السر وأخفى وهذا تفكيرهم ومعنى الحياة الطيبة عندهم.
ثم صنف آخر يرون أن الحياة الطيبة هي في الحصول على المناصب والجاه فيسعون إلى ذلك ويسلكون كل السبل التي توصلهم إلى هذا المقصود وإلى هذه الغاية يبذلون كل غالٍ ورخيص في أن يحصلوا على مقصودهم.
يبذلون ويقصدون إلى هذه المناصب فلا يعانون عليها ويتعلقون بها فيوكلون إليها يحبون من مالأهم ومن ناصرهم ومن ملقهم ونافق ويبغضون ويكرهون من نصح لهم وأخلص. هذا حال كثير منهم ويرون مع ذلك أن هذه هي الحياة هي الحياة الطيبة ولو تنازلوا عن شيء من دينهم ولو أشغلهم ذلك عن طاعة ربهم ولو أطاعوا المخلوق في معصية الخالق، وقليل من الناس من يأخذ ذلك طاعة لله لا يسأله من نفسه وإذا وُكل إليه وحُمِّله فإنه يستعين الله عليه ويطيع الله فيه لأنه يذكر قول رسوله لأبي ذر رضي الله عنه: ((يا أبا ذر إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) أو كما قال .
ثم صنف ثالث من الناس يرى أن الحياة الطيبة والحياة الكريمة في حصول النفس على شهواتها وتمتعها بلذائذها وشهواتها وحصولها على ذلك من أي سبيل، حتى ولو كان في معصية الله تبارك وتعالى فتراهم يرتعون يسرحون ويمرحون كالبهائم بل هم أضل، يحرصون على التمتع باللذائذ ويعجبون أن يُقال لهم: اتقوا الله ويعجبون لمن يرى الحياة الطيبة في غير ما هم يسلكون وفي غير ما هم وراءه يسعون يتبعون اللذائذ وينتقلون إليها ويشدون الرحال من بلد إلى بلد ليعصوا الله وليترفوا وليلذذوا أنفسهم بمعصية الله.
تغرهم هذه النعمة صحة في البدن وأمن في الوطن ورخاء في العيش فبدل أن يكون ذلك شكر يكون ذلك كفر الغفلة تستولي على قلوبهم يرون ويسعون ما حولهم من الناس ومن الشعوب التي تفتك بهم الأمراض وتفنيهم الحروب وتقتلهم الكوارث والنوازل يتضورون بل يموتون جوعًا فلا يكون لذلك في نفسهم عبرة بل يزدادون غفلة وصدق فيهم قول الله تعالى: أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [الأعراف:179].
هؤلاء يرتعون ويمرون ويرون أن هذه هي الحياة الطيبة وهي الحياة الكريمة فإلى الله مآلهم وبين يديه سؤالهم وحسابهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصنف من الناس يا عباد الله ونعوذ بالله من حالهم يرون أن الحياة الطيبة في معصية الله فيفاخرون بها ويجاهرون ولا يرى كثير منهم أنها معصية بل يرى أنه كلما أمعن في المعصية أيًا كانت كلما استغرق فيها رأى أنه أخذ بنصيب وافر من الحياة الطيبة يجاهرون ويفخرون ويسخرون من غيرهم إن كانوا من أهل الشرك والكفر فإذا رأوا ما هم عليه من الشرك والكفر والإلحاد ومن تكذيبهم لله تعالى ولأنبيائه ورسله يرون أن تلك حياة كريمة وأنها تحرر يشركون بالله ويطعنون في الموحدين ويعصون الله ويؤذون الطائعين.
وإن كانوا من أهل الكبائر وما أكثرهم اليوم فهم ينتقلون من كبيرة إلى كبيرة حتى تذهب من أنفسهم هيبة الله تعالى وعظمته وحتى يُطبع على قلوبهم فيرون المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ويصبح هذا هو معنى الحياة الطيبة عندهم والعياذ بالله من هذا الصنف.
وهؤلاء أصناف كثيرة وألوان شتى يراها الناس في حياتهم ويلمسونها ويحسونها كثير لا يتسع المقام لذكر هذه الأصناف. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحياة الطيبة التي يرضاها لنا ويرضى بها عنا وأن يسلك بنا صراطه المستقيم.
أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|