واتـــق الله فـــتــقــوى الله ما لامست قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقتل شعبا بطلا إنمـــا مـــن يــــتـــقـــي الله البـــطـــل
عباد الله، يحكي لنا رب العزة والجلال في كتابه عن نماذج بشرية فاسدة تمارس الطغيان والإفساد والكبرياء والإجرام في الأرض، ومن هذه النماذج البشرية الفاسدة المجرمون.
المجرمون الذين ذكرهم الله في كتابه في عدة مواضع حكى لنا حالهم في الدنيا وطغيانهم فيها وعداواتهم لمنهج الله وللرسل وأتباع الرسل من الدعاة والمؤمنين، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان: 31]، ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [يونس: 75].
وحكى لنا القرآن عن موسى عليه السلام وهو يصف فرعون وقومه لما كذبوه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22]. فكل من يقف حجر عثرة أمام الأنبياء والمصلحين فهو مجرم، وكل من يعادي أولياء الله والمؤمنين فهو مجرم.
وأصل المجرم هو المكتسب لكل شر المنقطع عن كل خير، والله سبحانه أودع في النفس البشرية الاستخراج للخير والشر كما قال سبحانه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 7، 8].
والله سبحانه وتعالى ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب ولا وهب العقل ولا منَّ بالفطرة التي تذكر العبد بربّه ولا رغب بالجنة ولا رهب من النار ولا فرض العقوبات الشرعية إلا ليكبح العبد جماح نفسه عن الإجرام.
عباد الله، إن الله هو خالق المؤمنين وهو خالق الكافرين، وهو خالق الملائكة الطائعين وخالق الشياطين، فعلم أن في ذلك فوائد وحكما كثيرة، منها حتى تظهر آثار أسماء الله تعالى العلية الجليلة، فاسم المنتقم لا يظهر إلا في وجود الإنسان المجرم، واسم الغفور لا يظهر إلا في وجود العبد التائب الذي جاء إلى ربه يرجو رحمته ومغفرته، واسم الودود لا يظهر إلا في وجود العبد المتحبّب لله والذي يحبه الله.
وقد عني القرآن الكريم ببيان صفات المجرمين وتحديد سبلهم ومنهجهم وعلاماتهم بحيث لا تختلط سبيل المجرمين بسبيل المسلمين، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين، بحيث أصبح بيان عوار المبطلين وإجرام المجرمين هدفا في حد ذاته لدين الله تعالى، وصدق الله العظيم حين قال: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55].
سبيل المجرمين علاماتهم وطرقهم وأساليبهم، وهي تكاد تتشابه في كل زمان ومكان، وقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123]، الأكابر هم علية القوم من يسمون بالعظماء، والشر والبلاء لا يأتي إلا منهم.
كل طاغية يقتل الأبرياء ويشرد الآلاف وينهب الأموال ويشيع الرعب والإرهاب ويعيث في الأرض فسادا فهو مجرم، وذلك يبرز في كل زمان ويتكرر في كل مكان، فيبرز طاغية مجرم يقوم بعمليات الإجرام.
وضرب الله مثلا للطغاة بفرعون وهو يدعي ملكية الأرض والناس والأموال والأنهار فيقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف: 51]، بل تعالى بنفسه حتى قال: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى، ومن ظن بنفسه هكذا فلا يقبل بعد ذلك النقد أو المراجعة أو التعقيب، فهو لا يرى إلا نفسه، فهو المجد، وهو التاريخ، وهو الفخر، وهو العلو، وهو الفيلسوف، وهو القائد، وهو الرئيس، وهو الرمز، وهو العالم، وهو المفتي، وهو الخطيب، وهو الذي لا يخطئ، وهو مجد لا يفرط فيه بلده ولا قومه ولا العرب ولا إفريقيا ولا أمريكا اللاتينية ولا العالم، وهو ملك ملوك إفريقيا، وهو ثالث ثلاثة: "الله معمر وليبيا" وبس. تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
إن من علامات المجرمين تنحية منهج الله عن الحياة، فكل من نحى منهج الله عن الحياة وحكم بغير شرع الله واعتقد أن منهج الله لا يصلح للتطبيق في الحياة فهو مجرم، ومن جعل دستوره الوضعي بدلا عن دستور الله، كل من أزهق الأمة وقتل الآلاف من شعبه وشرد مئات الآلاف من أجل أن يبقى على الكرسي ولو على جثث أبناء شعبه وهامات المستضعفين من رعيته فهو مجرم، كل من استنزف خيرات أمته وشعبه وصرف خيراتها وأموالها في سبيل منصبه وشهوته وتركها تتلوى من الجوع وتتلظى من البرد والفقر وتفتقد إلى أبسط متطلبات الحياة من تعليم جيد وصحة ومشاريع، بينما الأرض مليئة بالكنوز، وكل من فعل ذلك فهو متبع لسياسة "أجع كلبك يتبعك" فهو مجرم، وسيأكله شعبه بدل أن يتبعوه، كل من لا يقيم وزنا للإنسان ولا يفهم إلا لغة التصفية الجسدية لكل من يخالف له رأيا أو إشارة فهو مجرم.
عمر بن الخطاب جاءت عير من اليمن فيها قطع قماش، فوزعها على المسلمين، أصابت كل واحد منهم قطعة، صعد عمر المنبر وقد بدت عليه قطعتان، وقال: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، فقام أعرابي من طرف المسجد فقال: لا سمع لك ولا طاعة، قال عمر: لم؟ قال: لأنك أعطيت كل واحد قطعة وعليك قطعتان، فقال عمر: أين ولدي عبد الله؟ فقام عبد الله بن عمر من طرف المسجد فقال له عمر: أليس هذه الثانية لك وأهديتها لي؟ فقال: نعم، فقال الأعرابي: الآن نسمع ونطيع.
المجرمون في كتاب الله هم كل من كان مصدر إيذاء وشر فهو مجرم، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 39-47].
الصلاة مثال لكل عبادة يقتصر نفعها على صاحبها فقط، والزكاة مثال للطاعة التي يتجاوز نصفها إلى الآخرين، فكل من كان فاقدا للخير في نفسه فاقدا للخير فيمن حوله خائضا بالباطل كان مصدر شر وإيذاء فهو مجرم.
من المجرمين المذكورين في كتاب الله الساخر بالمؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين: 29-32].
سنة الله في الأرض، فالذين سخروا من أنبياء الله واتهموهم بالسحر والكذب والجنون أمثالهم وورثتهم في كل زمان يتهمون المؤمنين والمصلحين بالعمالة والتآمر والرجعية والتطرف وانفصام الشخصية وتعاطي المخدرات وحبوب الهلوسة ويشبهونهم بالجرذان والقمل والحيوانات.
وقد سخّر المجرمون وسائل إعلامهم لممارسه هذه السخرية وهذا التشويه، وأنتجت الأفلام والمسلسلات فيها السخرية والاستهزاء بدين الله علانية، والضحك من أهل الإيمان.
من سمات المجرمين الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة: 22].
من سمات المجرمين أنهم يضلون أتباعهم، ويسعون بكل وسيله إلى إضلال الناس وصرفهم عن طريق الحق، ويأتي المضللون يوم القيامة ينسبون ضلالهم إلى المجرمين، ويصور لنا القرآن حال أهل النار بعد أن يكبكبوا فيها وهم يختصمون فيها ويعترفون بضلالهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 97-101].
|