الحج ولادة جديدة، وبداية جديدة، وعهد جديد في حياة الحاج، قال : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) متفق عليه. يرجع الحاج وكأنه ولد لتوه، طاهرًا نقيًا من الذنوب والمعاصي، يرجع وقد وعد بالجنة، تخيلوا حاجا يرجع بهذه النفسية، وبهذا الشعور، يمشي على الأرض وكأنه من أهل الجنة، وهو طاهر كملك من الملائكة، ما عليه خطيئة. ألا يستحق هذا شكرا لله تعالى ومزيد طاعة وتكرارا لهذا الركن العظيم كل عام؟! بلى.
ولكن المسلم لا يمكن أن يحج إلا مرة واحدة كل عام، بل ويتمنى أن يحج كل سنة لو تيسر له ذلك لعظم ثواب الحج، ولكن مهما حرص المرء أن يحج كل عام فلن يبلغ عدد حجاته أكثر من عدد سنوات عمره، ولذلك لو قيل عن مسلم أنه حج خمسين حجة، فمعنى ذلك أن عمره ليس أقل من خمسين سنة على افتراض أنه حج كل عام منذ ولادته.
ولكن كيف يستطيع المسلم أن ينال عددا من الحجات تفوق عدد سنوات عمره؟! وبعبارة أخرى: كيف يكسب العبد ثواب ألف حجة أو خمسة آلاف حجة وأكثر من ذلك؟! هو بالحرص على الأعمال الصالحة التي أخبر النبي بأن ثوابها يعدل ثواب الحج. وهل هناك أعمالا صالحة يعدل ثوابها ثواب الحج؟ نعم، فتعالوا معي في هذه الخطبة نستعرض خمسة أعمال صالحة ثوابها يعدل ثواب الحج؛ أهداها لنا نبينا لتكثير حسناتنا وتثقيل ميزاننا، ومن استكثر من هذه الأعمال وكسب ثواب ألف حجة مثلا فكأنه عُمّر ألف عام حج فيها سنويا.
العمل الأول: أداء العمرة في رمضان:
فقد روى جابر أن رسول الله قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) متفق عليه، وفي رواية: ((تعدل حجة معي)).
العمل الثاني: أن تحجج عددا من الناس من مالك الخاص كل عام:
فإذا أردت ثواب الحج فبإمكانك أن تبحث عن أناس وتحججهم على نفقتك، فتنال ثواب الحج وأنت قاعد في بيتك، ويمكنك أن تُحوِّل ثواب ذلك الحج لأحد والديك ليرتقي ثوابك إلى ثواب البر والإيثار، فإن ذلك يصل ثوابه للميت، فقد أراد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما التصدق عن جده الكافر، فسأل رسول الله إن كان يصل للميت ثواب العتق فقال : ((لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك)) رواه أبو داود.
العمل الثالث: المحافظة على صلاة الإشراق:
فعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)) رواه الترمذي. وفي رواية عن عتبة بن عبد أن النبي قال: ((من صلى صلاة الصبح في جماعة، ثم ثبت حتى يسبح لله سُبحة الضحى، كان له كأجر حاج ومعتمر تاما له حجه وعمرته)) رواه الطبراني.
هذه السُنة قلَّ من يعمل بها في كثير من المساجد، وذلك لعدة أسباب أهمها السهر إلى ساعة متأخرة من الليل، وهذا لا شك يعيق من مواصلة الجلوس في المسجد إلى طلوع الشمس وأداء هذه الصلاة، فحري بك -يا عبد الله- أن تأخذ بالأسباب التي تعينك على كسب هذا الثواب العظيم، حجة وعمرة، ولو على الأقل أن تعمل بها في عطلة نهاية الأسبوع، حيث لا يربطك في الغالب وظيفة أو دراسة، فتفوز بثواب حجتين وعمرتين أسبوعيا، فكأنك عُمّرت سنتين فحججت فيهما واعتمرت.
وكثيرا ما تسأل النساء اللاتي يصلين في بيوتهن ويحرصن على هذا الثواب، هل تكسب ثواب حجة وعمرة لو بقيت في مصلاها حتى تطلع الشمس قيد رمح ثم صلت ركعتين؟ قال بعض أهل العلم: ظاهر هذا الحديث العموم لكل من صلى الصبح في جماعة وجلس الجلوس المذكور ثم صلى الركعتين، ولا شك أن المرأة إذا قعدت في بيتها سيكون لها الأجر العظيم، وليس مَعَنا من الدليل ما يدل على أن لها أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، إلا أننا نرجو لها ذلك من الله، ما دامت قد جلست في مكان صلاتها ذاكرة الله، فالنبي صرح بأن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد.
العمل الرابع: حضور الدروس والمحاضرات في المساجد:
فقد روى أبو أمامة أن رسول الله قال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته)) رواه الطبراني وصححه الألباني.
إن حضورك لكل درس أو محاضرة تقام في المسجد تنال به ثواب حجة كاملة. إننا نرى بعض الناس يتقاعسون عن حضور مثل هذه المحاضرات، وإنك ترى الواحد منا لو عرض عليه رحلة برية ورؤية الربيع على مسافة مئة كيلومتر لذهب إلى هناك، بينما يسمع عن محاضرة لا تبعد عن بيته سوى مئات الأمتار فيتقاعس عن الذهاب إليها، وتوزع الإعلانات الملونة على أبواب المساجد بعناوين المحاضرات فلا يكترث لها.
لقد كان السلف -رحمهم الله تعالى- يسافرون في طلب العلم، واليوم أصبح العلماء هم الذين يأتون من مدن بعيدة لتقديم الدروس والمحاضرات والدورات العلمية للناس، ولكن لا نجد حرصا على الحضور، ألا تعلمون أن من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع؟! ألا تعلمون أنه ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم قوموا مغفورا لكم؟! ألم تسمعوا قول النبي : ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة))؟! وفوق ذلك كله تنال ثواب حجة كاملة لحضورك درسا أقيم في المسجد، هكذا بشر النبي حين قال: ((من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته)).
فحري بنا -أيها الإخوة- حضور مجالس العلم وتعلم أمر ديننا، وحري بنا الحرص على الأعمال التي ثوابها يعدل ثواب الحج، والإكثار منها، وهذه الأعمال لا تُسقط عنا حج الفريضة، وإنما تزيد ثوابنا. أسأل الله العظيم أن يحببها لنا ويفقهنا في أمر ديننا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|