أما بعد: أيها المسلمون، فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعداء دينه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.
ولهذا سوف تكون خطبتنا لهذه الجمعة عن ذكر النار وما أعده الله فيها من العذاب الشديد والنكال الوجيع لمن عصاه ولم يلتزم شرعه، ليكون ذلك قامعا للنفوس عن شهواتها وفسادها، وباعثا لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها، فإن النفوس ولا سيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها وتمنت على الله الأماني، والشهوات لا يذهبها من القلوب إلا أحد أمرين إما خوف مزعج محرق أو شوق مبهج مقلق، وقد قيل للحسن: يا أبا سعيد، كيف نصنع؟ نجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله، إنك أن تخالط قوما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
فأقول وبالله التوفيق: لقد قست القلوب فهي بين شواغل الدنيا وملهياتها، إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، وأما الحديث عن الرقائق والرغائب فهو غريب عن القلوب، غريب على الآذان، قلما تنصت إليه، قلما تسمعه، كم كان يتعاهد أصحابه بمواعظ تذرف منها العيون وتوجل منها القلوب وترتعد منها الفرائص، يقف رسول الله يخاطب أصحابه بكلمات يسيرات فيقول: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله))، فما هو إلا أن ينتهي من كلامه عليه الصلاة والسلام حتى يخفض الصحابة رؤوسهم ويكبوا بوجوههم ولهم ضجيج وخنين بالبكاء.
أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر، وأن نذكرها بما خوف الله به عباده وحذرهم منه، وقد حذر سبحانه وتعالى عباده أشد التحذير، وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار من دار الخزي والبوار، فقال جل جلاله وتقدست أسماؤه: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل: 14]، وقال: إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 35-37]. فوالله، ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار؛ وصف لهم حرها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حرارتها وغايتها، وصف أصفادها وسرابيلها، وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، ويسمع وحده جهنم كأنما أقيم على شفرها، فهو يراها رأي عين، يرى كيف يحطم بعضها بعضا، كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها ويجرجرون في أوديتها، كل ذلك من المولى جل وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوّف نبينا عليه الصلاة والسلام من النار وأنذر وتوعد وحذر، وكان شديد الإنذار شديد التحذير من النار، وقف مرة على منبره فجعل ينادي ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) وعلا صوته حتى سمعه أهل السوق جميعا، وحتى وقعت خميصة كانت على كتفيه ، فوقعت عند رجليه من شدة تأثرة وانفعاله بما يقول، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا آخذ بحجزكم عن النار وأقول: إياكم وجهنم والحدود، إياكم وجهنم والحدود)) فهو آخذ بحجز أمته ويقول: ((إياكم عن النار، هلّم عن النار)) وهم يعصونه ويتقحمونها.
أيها الإخوة في الله، ثم أصبح الحديث عن النار وأهوالها حديثا خافتا لا تكاد تتحرك به ولا تستشعره القلوب، ولا تذرف منه العيون، حديثا غريبا على المسامع بعيدا عن النفوس مع أن ربنا جل جلاله قد ذكرنا بها غاية التذكير وحذرنا غاية التحذير، ألا فلنشعِر القلوب بشيء من أحوالها، ولنذكّر النفوس بشيء من أهوالها؛ لعل قسوة من قلوبنا تلين وغفلة من نفوسنا تفيق.
فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة وعذاب شديد، إن سألت عن حرها وقعرها وحياتها وزقومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها فما ظنك بنار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة. ما ظنك بحرها، نارنا هذه جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم.
أما بُعدْ قعرها فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها، والله لتملأن، والله لتملأن، والله لتملأن.
أما طعامها وشرابها فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43-45]، وقوله: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 62-68].
أما شرابها فاستمع إلى ما يقول ربنا وخالقنا: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29].
فهذا الطعام ذو غصة وعذاب أليم، وهذا الشراب كما قال تعالى: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 16، 17].
يقول عليه الصلاة والسلام في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!))، يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا أغيثوا بشجر الزقوم، فإذا أكلوه غلا في بطونهم كغلي الحميم، فيستقون، فيسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوى وجهه، فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره، وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15].
أما سلاسلها وأغلالها فاستمع إلى وصفها: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32]، فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن: 41] أي: أن ناصية رأسه تجمع إلى قدميه من وراء ظهره. ينشئ الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال لم: يا أهل النار أي شيء تطلبون؟ فيقولون: الشراب، فيستقون، فتمطرهم تلك السحابة السوداء أغلالا تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرا يتلهب عليهم.
أما عذاب أهل النار وكل ما مضى من عذابها فما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذابا من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم.
أما حال أهلها فشر حال، وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب، وما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أكبادهم جوعا، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها، فلو رأيتهم وقد أسكنوا دار ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف: 41]، فغطاؤهم من نار وطعامهم من نار وشرابهم من نار ولباسهم من نار ومهادهم من نار، فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع وجر السلاسل، يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، تغلي بهم كغلي القدر، وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22]، يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56]، أمانيهم فيها الهلاك وما لهم من أسرها فكاك، فما حال دار أماني أهلها إذا تمنوا فيها الموت؟! ما حال دار إذا تمنى أهلها تمنوا أن يموتوا؟! كيف بك لو رأيتهم وقد اسودت وجوههم؟! فهي أشد سوادا من الحميم، وعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم ومزقت جلودهم وغلّت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطؤون حسك الحديد بأحداقهم، ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتتت منا الكبود، يا مالك العدمُ خير من هذا الوجود، فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقوى خطاب وأغلظ جواب: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77، 78]، فينادون ربهم وقد اشتدّ بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 106، 107]، فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبهم بتوبيخ أشد من العذاب: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، فعند ذلك أطبقت عليهم وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزاد حسراتهم وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء، يبكون على تضييع أوقات العمر، ويتأسفون أسف أعظم من المصاب، ولكن هيهات هيهات ذهب العمل وجاء العقاب.
لقد خاب من ولد آدم من مشـى إلَى النـار مغلول القيادة أزرقا
يساق إلى نار الْجحيـم مسربـلا سرابيـل قطران لباسا محرمـا
إذا شربوا منها الصديـد رأيتهـم يذوبون من حر الصديد تمزقـا
ويزيد عذابَهم شدة وحسرتهم حسرة تذكرُهم ماذا فاتهم بدخول النار، لقد فاتهم دخول الجنان ورؤية وجه الرحمن ورضوان رب السماء والأرض جل جلاله، ويزيد حسرتَهم حسرة وألمهم ألما أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه بلذة فانية وشهوة ذاهبة:
مآرب كانت لأهلها في الحياة عِذابا فصارت لهم بعد الممات عَذابـا
لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس دراهم معدودة؛ بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانت وما كانوا، ثم لقوا عذابا طويلا وهوانا مقيما، فعياذا بالله من نار هذه حالها، وعياذا بالله من عمل هذه عاقبته، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم: 49-52].
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك، اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 65/ 66].
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36، 37].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|