أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله مع المتقين.
أحبتي في الله، حديثنا اليوم عن الرعيل الأول، عن خير الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام، حديثنا عن رجل من خير القرون، عن نجم من نجوم الهدى ومصابيح الدجى، الذين بذكرهم تسعد النفوس وتبتهج القلوب، ويزداد الإيمان زيادة في الصدور، حديثنا عن صحابي جليل من صحب خير الخلق ، والصحابي -عباد الله- هو من صَحِبَ رسول الله بِلُقِيِّهِ ولو ساعةً مؤمنًا به ومات على ذلك.
والصحابة رضي الله عنهم كلهم أثنى الله عز وجل عليهم بدون استثناء، وأثنى عليهم رسوله ، الصحابة رضي الله عنهم خير الناس بعد الأنبياء، وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه وكفى بذلك فضلا ومنة، وهم أَحق بالاتباع من غيرهم، وذلك لصدقهم في إيمانهم وإخلاصهم في عبادتهم، وهم حُرَّاس العقيدة وحُماة الشريعة العاملون بها قولا وعملا؛ ولذلك اختارهم اللّه تعالى لصحبة نبيه ولنشر دينه ولتبليغ سُنَّة نَبيِّه .
ومما صح في فضلهم عنه : ((تَفْتَرقُ أمَتِي عَلَى ثَلاَث وَسَبْعِينَ ملة، كُلهُم في النارِ إِلا مَلّة وَاحِدَة))، قالوا: مَن هي يا رسول اللّه؟ قال: ((مَا أَنَا عَلَيْه وَأصْحابي)). قال عز وجل في ثنائه على أصحاب النبي : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29]، وقال عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنَّهُارُ [التوبة: 100]، وكذلك قوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18]، حتى سُمِّيَتْ هذه البيعة بيعة الرضوان؛ لأنَّ الله رَضِيَ ما عملوه، رَضِيَ بَيْعَتَهُمْ فَسُمِّيَتْ بيعة الرضوان، ومنها أيضًا قول النبي : ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، كذلك قوله كما في الصحيحين: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه))، وقال أيضًا عز وجل: لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]. والآيات في فضل الصحابة بِمُجْمَلِهِمْ فيها أنواعٍ من الدلالات، وكذلك الأحاديث كثيرة جدًا، وقد صُنفت مصنفات كثيره في ذلك.
عباد الله، إن هذه الآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل صحب النبي تفيدنا في عدة أمور:
1- أنَّ الصحابِيَّ إذا مات على الإيمان فإنَّهُ موعودٌ بالمغفرة والرضوان.
2- أنَّ الصحابة كلهم عدول في دينهم وفيما يروون وينقلون من الشريعة، وأنَّ ما حَصَلَ من بعضهم من اجتهاد فإنَّهُ لا يقدح عدالتهم ولا يُنْقِصُهَا، لِمُضِيِّ ثناء الله عز وجل عليهم مطلقًا.
3- أنَّ سبَّ الصحابة ينافي ما دَلَّتْ عليه الأدلة من الثناء عليهم، وهو منهيٌ عنه بالنَّص؛ فلذلك أفادت هذه الآيات حُرْمَة سبِّ الصحابة: ((لا تسبّوا أصحابي))، وهذا يقتضي التحريم، فكل سَبٍّ للصحابة محرم، وأكَّدَّ ذلك بقوله: ((من سبَّ أصحابي فقد آذاني))، وأذيته محرمة وكبيرة، وكذلك إيذاء الصحابة، فقد قال عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]، وإيذاء الصحابي احتمالٌ للإثم المُبِينْ، وهذا دخولٌ في المحرّمات الشديدة.
4- أنَّ الآيات دلَّتْ على أنَّ الصحابة يتفاوتون في المنزلة وفي المرتبة، وأنَّهُم ليسوا على درجة واحدة، لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
ففيما سبق من النصوص -أحبتي في الله- دلالة على أن حب الصحابة فرض وواجب، والمعتقد الصحيح في صحب النبي والذي عليه السلف الصالح وهو معتقد أهل السنة والجماعة أننا نُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله ، وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم؛ وَلاَ نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم، ولا نُذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ. فرضي الله على ذلك الصحب المبارك وأرضاهم، أصحاب المصطفى ، وقد أحسن القائل بقوله:
إن كان في الناس سبـــاقون بعدهــم فكـــــــل سبــــق لأدنى سبقــــــــهــــم تبــــــع
أعـــفــة ذكــــرت فـي الوحـــي عفتهــم لا يطمعـــــون ولا يــــزري بهــــم طمـــــــــــع
قــــوم إذا حــــاربــوا ضـــروا عـــدوهــــم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
لا يفخــــرون إذا نــــالــــوا عـــــدوهـــــــم وإن أصيبوا فلا خـــــــور ولا جـــــــــــــــــزع
عباد الله، الصحابي الذي نريد أن نتحدث عنه هو عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، يكنى أبا أمية.
كان له قدر وشرف في قريش، وهو ابن عم صفوان بن أمية بن خلف. وشهد بدرًا مع المشركين كافرًا، وهو القائل يومئذ لقريش عن الأنصار: أرى وجوهًا كوجوه الحيات؛ لا يموتون حتى يقتلوا منا أعدادهم، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير العيش بعد ذلك؛ فانظروا رأيكم، فقالوا: دع هذا عنك. فحرش بين القوم، فكان أول من رمى بنفسه عن فرسه بين المسلمين وأنشب الحرب بين الفريقين.
وكان من أبطال قريش وشياطينهم، وكان أهل مكة يلقبونه بشيطان قريش، وهو الذي مشى حول المسلمين ليحزرهم يوم بدر –أي: ليخمن أعدادهم-، فلما انهزم المشركون كان عمير فيمن نجا، وأسر ابنه وهب بن عمير يومئذ، فلما عاد المنهزمون إلى مكة جلس عمير وصفوان بن أمية بن خلف في حجر الكعبة يتذاكرون مصابهم وما حل بهم من قتل أشرافهم وصناديدهم.
واسمع -رحمك الله- إلى قصة إسلام عمير، قال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر، قال عمير: أجل، ولولا دَين عليَّ لا أجد قضاءه وعيال لا أدع لهم شيئًا لخرجت إلى محمد فقتلته إن ملأت عيني منه، فإن لي عنده علة أعتل بها، أقول: قدمت على ابني هذا الأسير. ففرح صفوان وقال: عليّ دَينك، وعيالك أسوة عيالي في النفقة، فقال له عمير: إذن فاكتم شأني وشأنك. فجهزه صفوان، وأمر بسيف فسُمّ وصقل، فأقبل عمير حتى قدم المدينة، فنزل بباب المسجد، فنظر إليه عمر بن الخطاب وهو في نفر من الأنصار يتحدثون عن وقعة بدر، ويذكرون نعمَ الله فيها، فلما رآه عمر معه السيف فزع وقال: هذا عدوّ الله الذي حزرنا للقوم يوم بدر. ثم قام عمر فدخل على رسول الله فقال: هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد متقلدًا سيفًا، وهو الغادر الفاجر، يا رسول الله لا تأمنه على شيء، قال: ((أدخله علي)). فخرج عمر فأمر أصحابه أن ادخلوا على رسول الله واحترسوا من عمير. وأقبل عمر وعمير فدخلا على رسول الله ، ومع عمير سيف، فقال: أنعموا صباحًا وهي تحيتهم في الجاهلية، فقال رسول الله : ((قد أكرمنا الله عن تحيتك، السلام تحية أهل الجنة، فما أقدمَك يا عمير؟)) قال: قدمت في أسيري، ففادونا في أسيركم، فإنكم العشيرة والأهل، فقال رسول الله : ((فما بال السيف في رقبتك؟)) فقال عمير: قبّحها الله، فهل أغنت عنا في شيء؟! إنما نسيته حين نزلت، فقال رسول الله : ((اصدقني، ما أقدمَك؟)) قال: قدمت في أسيري، قال: ((فما الذي شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟!)) ففزع عمير فقال: ما شرطتُ له شيئًا! قال: ((تحمّلتَ له بقتلي على أن يعولَ بنيك ويقضي دينك، والله حائل بيني وبينك)) قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، كنا نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر ولم يعلم به أحد، والحمد لله الذي ساقني هذا المساق، وقد آمنت بالله ورسوله. ثم قال: والله، لا أدع مكانا جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان.
ففرح المسلمون فرحًا شديدًا، حتى قال عمر: والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحب إليّ من عمير حين طلع، ولهو اليوم أحب إليّ من بعض ولدي. فقال رسول الله : ((اجلس يا عمير نؤانسك))، وقال لأصحابه: ((علموا أخاكم القرآن)). وأطلق له أسيره، فقال عمير: يا رسول الله، قد كنت جاهدًا ما استطعت على إطفاء نور الله، والحمد لله الذي هداني من الهلكة، فائذن لي يا رسول الله فألحق بقريش فأدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، لعل الله أن يهديهم ويستقذهم من الهلكة. فأذن له رسول الله ، فلحق بمكة، وجعل صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر، يريد أن يأتي بخبر مقتل النبي ، وجعل يسأل كل من قدم من المدينة: هل كان بها مِن حدث؟ حتى قدم عليه رجل فأخبره أن عميرًا أسلم، فلعنه المشركون، وقالوا: صبأ، وحلف صفوان لا ينفعه بنفع أبدًا، ولا يكلمه كلمة أبدًا. فقدم عليهم عمير، فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم بشر كثير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|