وبعد:
أيها الأحبة سوف أتكلم في هذه الجمعة عن بعض فضائل النبي التي تستوجب محبته واتباعه في كل ما أمر واجتناب كل ما نهى عنه وزجر ولأن الحب يرتبط في قلب الإنسان بدوافع وبواعث تبعث عليه مهمتها أن تحرك القلب وتدفعه نحو محبوباته، وتتعدد هذه الدوافع وتتنوع بحسب تنوع المحبوبات واختلافها، فمن الحب ما تدفع إليه البواعث الحسية أو العقلية أو القلبية وذلك لوجود صفات قامت بالمحبوب والوصف بها من كمال أو جمال أو إحسان أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الجالبة للحب وإذا نظرنا إلى محبة الرسول فسنجد أن البواعث عليها متنوعة ومتعددة، وذلك لكثرة ما خصّه الله به من أنواع الفضائل وصفات الكمال وما أجراه الله على يديه من الخيرات لأمته إلى غير ذلك من الدواعي التي ترجع إلى مجموع خصائص النبي وصفاته.
وقد ظهرت آثار اصطفاء الله لنبيه في جوانب كثيرة منها:
طهارة نسبه فلم ينل نسبه الطاهر شيء من سفاح الجاهلية فكان من سلالة آباء كرام ليس فيهم ما يشينهم أو يعيبهم بل كانوا سادات قومهم في النسب والشرف والمكانة وفي مسلم قال : ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)).
ومنها: تعهّد الله له برعايته وحفظه من الصغر فقد أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وشق عن قلبه وأخرجه وغسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم واستخرج منه علقة، وقال له: هذا حظ الشيطان منك. رواه مسلم.
ومنها عصمته : عصمته من تسلط أعدائه عليه بالقتل أو منعه من تبليغ رسالة ربه قال تعالى: والله يعصمك من الناس .
وعصمته مما يقدح في رسالته ونبوته قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ومنها أن الله كمّل له المحاسن خُلقا وخَلقا، فكان أكمل الناس خلقا من حيث جمال صورته وتناسب أعضائه وطيب ريحه وعرقه ونظافة جسمه واكتمال قواه البدنية والعقلية كما كان أكمل الناس خلقا إذا جمع محاسن الأخلاق وكريم الشمائل وجميل السجايا والطباع قال تعالى وإنك لعلى خلق عظيم ، ومنها تشريفه بنزول الوحي عليه قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .
ومنها كونه خاتم النبيين قال تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين .
ومن أدلة فضله وشرفه أنه ساد الكل كما في حديث عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه)) رواه البخاري ومسلم.
ولما كان ذكر مناقب النفس إنما تذكر افتخارا في الغالب أراد أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أنه يذكر ذلك افتخارا فقال: ((ولا فخر)).
ومنها أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك بل الظاهر أنه لم يخبرهم لأن كل واحد منهم إذا طلبت منه الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) فإذا أتوا النبي قال: ((أنا لها أنا لها)) كما في حديث الشفاعة الطويل.
فهو أول من يشفع في الخلائق يوم القيامة وهذه الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود الذي اختص به نبينا قال تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .
ومن فضله وشرفه أن معجزة كل نبي تصرّمت وانقضت ومعجزته وهي القرآن المبين باقية إلى يوم الدين.
ومنها أن الله تعالى وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: يا أيها النبي ، وقال: يا أيها الرسول فنادى الله عز وجل الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وقال: يا نوح اهبط بسلام منا وقال: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وما خاطب الله عز وجل نبينا إلا بقوله: يا أيها النبي أو بقوله: يا أيها الرسول .
ولا يخفى على أحد أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العَلَم.
ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل أمر الأمة بتوقيره واحترامه، فأخبر عز وجل أن الأمم السابقة كانت تخاطب رسلهم بأسمائهم الأعلام كقولهم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهه وقولهم: يا هود ما جئتنا ببينة ، وقولهم: يا صالح آتنا بما تعدنا ونهى الله عز وجل أمة النبي محمد أن ينادوه باسمه فقال عز وجل: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، وعن ابن عباس في هذه الآية قال: (كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه قال: فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله).
ونهى الله عز وجل أمته أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته إعظاما له فقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون يقول ابن القيم في هذه الآية: (فحذر الله المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها) فما الظن بمن قدّم على قول الرسول وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟
أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟
ومن شرفه أنه بعث إلى الناس كافة وإلى الثقلين من الإنس والجن.
ومنها أنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة لا تنبغي لعبد من عباد الله وهي له .
ومنها نهر الكوثر الذي أعطاه الله إياه وهو ونهر في الجنة ويصب في الحوض الذي في الموقف يوم القيامة، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس قال: بينما رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر .
ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
ومن فضله أنه أحلت له الغنائم ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((أعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) رواه البخاري ومسلم. ومن فضله أن الله عز وجل وهبه سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وجوههم مثل القمر ليلة البدر، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وليس هذا لأحد غيره .
وهذه المآثر والفضائل التي وهبها الله لنبيه محمد كثيرة جدا نقتصر على ما ذكرنا خشية الإطالة.
ومع هذا لو لم يكن له من نعمة الله وفضله عليه إلا أخلاقه العظيمة لكفته فخرا لأن المطالع في سيرته ومواقفه المتعددة يجد أن رسول الله قد حاز من كل خلق أرفعه وتسنّم ذرى الأخلاق حتى سما بها فكان كما وصفه الله بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم .
وكما قال حسان في مدحه :
وأحسن منك لم ترقطّ عيني وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وما عسى أن يقول المادحون في وصف من مدحه الله وأثنى عليه بمدائح؟ وهو سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، فمهما كتب الكاتبون ونظم الشعراء المادحون فلن يستطيعوا أن يجمعوا كل صفاته وفضائله، فصلوات الله عليه في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
فقد كان أكرم الناس خلقا، وأوسعهم صدرا وأصدقهم لهجة وأكرمهم عشيرة، وأوفاهم عهدا، وأوصلهم للرحم، قريبا من كل بر، بعيدا من كل إثم، لا يقول إلا حقا ولا يعد إلا صدقا، جواد بماله، فما قال لأحد: لا. قط، إلا في تشهده وما جرى لفظه على نعم، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، شجاعا يتقي به أصحابه عند شدة البأس، صابرا محتسبا في جنب الله كل مكروه وأذى، يسبق حلمه غضبه ويعفو عند المقدرة، رحيم القلب، طيب النفس، آتاه الله الكمال في الخلق والخُلق، والقول و العمل، وجمّله بالسكينة والوقار وكساه حسن القبول، فاستمال القلوب وملك زمامها، فانقادت النفوس لموافقته، وثبتت القلوب على محبته وفدته النفوس بكل عزيز وغال.
فهذا هو رسول الله فيجب على كل من عرف صفات نبيه أن يحاول أن يتأسى به وأن يحبه أكثر من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، لهذا كان المؤمنون المستقيمون على الصراط المستقيم على الجادة والطريق الوسط عرفوا منزلته وقدره وجعلوا محبته قرة عيونهم وشغاف قلوبهم واتباع سنته شعارهم ووقروه وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أثبتوا له كل ما خص به ربه من كريم الشمائل وجليل الخصال وما فضله به على النبيين وسائر البشر أجمعين، لكنهم لم يغلوا فيه قيد شعرة ولم يجاوزوا به قدره فهو عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وسيد ولد آدم الذي كان أعظم ما دعا إليه هو توحيد الله وتعريف الناس برب العالمين. وما يجب له سبحانه على عباده من حقوق وما وعدهم به في الآخرة فلم يستغيثوا به عند الشدائد فصلوات الله وسلامه عليه وجزاه عنا خير ما يجزي به نبيا عن أمته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|