أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى،
معاشر المؤمنين، يقول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ.
الماء آيةٌ من آيات الله، ودليل من دلائل قدرته الباهرة، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ.
الماء نعمةٌ وهبةٌ من الخالق جليلة، أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ.
الماء أغلى مفقود وأرخص موجود، إذا عدم أو غار أو عجز الخلق عن طلبه فقدت الأرض نضارتها، وعدمت ثمارها، وهلكت ماشيتها، وأصبح لونها شاحبًا، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ، فإذا عاد إليها اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
هذا الماء إن زاد عن حده وقدره هلكت الخلائق، ولكن الله جل وعلا ينزل بقدرٍ ما يشاء، وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
الماء جعله الحي الرازق للأرض حياة وللناس والحيوانات بركة ورحمة ورزقا، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ.
الماء خلقه عجيب ونبؤه غريب، صوره ربه بلا لون، وأوجده بلا طعم، وأنزله بلا رائحة، خفيف الروح بهي الطلعة، لطيفٌ رقراقٌ يخالط الأجواف، وسهلٌ لينٌ يحمل في الآنية والأسقية، عنيدٌ مهلك يطغى على الأودية ويبلغ الجبال فيغرق من تحته ويهدِمُ ما أمامه.
المطر علم وقت نزوله بيد الله قال النبي : ((مفاتيح الغيب خمس)) ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. رواه البخاري.
كثيرة هي -عباد الله- آيات القرآن تسرد ذكر الماء وثمراته وبركاته فيما يزيد على ستينَ موضعًا تحفل بالصورِ والمشاهدِ الدالة على الربوبية والوحدانية وعلى كونه نعمةً ورحمةً من الله تعالى، ليس هذا فحسب بل ونقمةً وعذابًا وبلاءً على الظالمين والكافرين والجاحدين. نعم عباد الله، فهذه النسمات اللطيفة والقطرات الصغيرة التي يُتَنَعم بها قد تكون سيلًا هادرًا وفيضانًا مهلكًا، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
عباد الله، إن هذا الماء وهذا المطر جنديٌ من جنود الله تعالى يأتمر بأمره، سجل له القرآن عمليات كبيرة قام بها ضد من خالف أمر الله تعالى واستكبر في الأرض، فكان نقمةً تُحدث الكوارث والموتَ فأصبحت كوارث وفيضاناتٍ لا تنسى أبد الدهر: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ.
لقد أغرق الله جل وعلا بهذا المطر أقوامًا تمردوا على شرع الله وفسقوا وظلموا، فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي، فأغرقهم ومزقهم كل ممزق، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ.
إنه الماء الذي طغى ليهلك كل طاغية، فأغرق فرعون وأذله وأخذه وجيشه: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ، شتت ملكه وأبقى أثره: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.
إنه السيل العرم الذي جاء لقوم سبأ فكانوا للناس في العبرة أحاديث ومزقهم الله كل ممزق: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ.
إنه الماء والمطر الذي وقف في صفِ الجيوشِ المسلمة كما حصل في غزوة بدرٍ، إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ.
إن هطول الأمطار ونزول الماء رحمة من والله وبركة على خلقه، وربما يكون عقابًا وعذابًا لآخرين. ولعل هذا السر في أن النبي كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا تغير لونه وعرف ذلك في وجهه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: الناسُ إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرِفَت في وجهك الكراهية! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟! قد عذب قومٌ بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) رواه البخاري ومسلم. وعن عطاء بن أبي رباح عن عائشة زوج النبي أنها قالت: كان النبي إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به))، قالت: وإذا تخيلت السماء –تعني: تغيمت وتهيأت للمطر- تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرِّيَ عنه فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته فقال: ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا)) رواه مسلم. هكذا كان سيدُ الخلق وأعرفُ الخلق بالله عز وجل، فما بالنا نحن نغفل عن هذا وكأننا بمأمن من أن يصيبنا عذاب بالريح أو بالمطر أو الفيضانات أو الزلازل أو غيرها؟!
وثبت عن نبيكم أنه كان يقول إذا رأى الغيث: ((اللهم صيبًا نافعًا)) رواه البخاري، وفي رواية لأبي داود ((اللهم صيبًا هنيئًا)). وثبت عنه أيضًا أنه قال: ((مطرنا بفضل الله ورحمته)) رواه البخاري. وكان إذا كثر المطر وخشي منه الضرر يدعو قائلًا: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) أخرجه الشيخان. استشعارٌ ومعرفةٌ بتدبير الله عز وجل في خلقه؛ فلذلك كان يواجه هذه الحالة التي تجري في هذا الكون بالخشية والخوف والإنابة والدعاء.
عباد الله، إن ما حدث في بوابة الحرمين الشريفين محافظة جدة العزيزة من كارثة السيول والفيضانات، بيوت تهدَّمت، وأنفاق امتلأت، ومحلات خربت، ومحطات وقود انطفأت، ومركبات انجرفت وانقلبت وغرقت، وأعظم من هذا كله أرواح أزهقت وأخرى فقدت، لهو أمر أحزن كل مسلم يألم ويحزن لأمر أخوانه المسلمين، فالمجتمع المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولكن ما عند الله خير وأبقى.
لِكُلِّ شَيءٍ إذا ما تمَّ نُقصَـــــــــانُ فلا يغرُّ بطِيب العَيشِ إنسانُ
فجــــــائع الدنيا أنــــواعٌ منوعـــــــةٌ وللزمـــــان مســـــــراتٌ وأحـــــــــزانُ
وَهَذِهِ الدَّارُ لا تبقِي على أحدٍ ولا يــــــــدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شانُ
عباد الله، إن ما حدث في جدة ويحدث إنه وقع بقضاء وقدر، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
كـــــــل شيء بقضـــــــــاء وقــــدر واللــــيـــــــالـــــــــي عبـــــــــــــــر أي عبـــر
هي المقادير فلمني أو فذر تجري المقادير على خرز الإبر
فلا اعتراض على قضاء الله عز وجل وقدره، وإنما التسليمُ والاحتساب والصبر.
إننا -عباد الله- لا نستغرب هذا الحدث الكوني، فالمطر ينزل والسيول تأتي والرياح تهب على أي مكان في العالم، وإنما نستغرب ذلكم الإهمال والتقصير الذي أودى بحياة كثير من المسلمين في العام الماضي، وها هو يتكرر هذه السنة في أمر جعلنا نتعجب ولا نقول إلا: الله المستعان وعليه التكلان.
وإننا نحتسب من قضوا غرقًا شهداء عند الله عز وجل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أخرجه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: "الشُّهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدُّنيا والآخرة وهو المقتول في حرب الكفَّار، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدُّنيا وهم هؤلاء المذكورون هنا، وشهيد في الدُّنيا دون الآخرة وهو من غلَّ في الغنيمة أو قتل مدبرًا". وقال ابنُ قدامة في المغني (3/476): "فأما الشهيدُ بغير قتل كالمبطون والمطعون والغرق وصاحب الهدم والنفساء فإنهم يغسلون ويصلى عليهم، لا نعلم فيه خلافا".
معاشر المسلمين، قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، لئن كان أحد أسباب هذه الحوادث المعصية والمجاهرة والمكابرة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن العقوبة والهلاك إذا حلَّ شمل الجميع إلا مَن رحم ربك؛ فإن زينب بنت جحش سألت النبي فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) متفق عليه، فإذا قيل هذا لخير جيل وهم الصحابة الكرام فما الظن بغيرهم؟! والله المستعان.
إن هذا الفيضان وهذه السيول التي أتت في جدة أو في غيرها هي في نفس الوقت للمؤمنين والصابرين امتحانٌ وابتلاء وتمحيص وتكفير للسيئات بإذن الله تعالى؛ فالمرء يُبْتَلى على قدر دينه كما صحَّ بذلك الخبر، وكما قال : ((إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب مَن كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم، فيكون هلاك الصالحين في البلاء هو موعد آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم)) رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/61): "وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لِمَن سكت عن النهي؛ فكيف بِمَن داهن؟! فكيف بِمَن رضي؟! فكيف بِمَن عاون؟! نسأل الله السلامة".
إن الجزاء من جنس العمل، والأمة المحسنة لها الحسنى، وما من قوم اتقوا ربهم إلا أنزل الله جل وعلا عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. والأمة المسيئة تحيط بها سيئاتها، وما تمرد قوم على شرع الله وفسقوا عن أمره إلا أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء: "وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسهم ومللهم ونحلهم على أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن ضدها من الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمته بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه".
فهل اعتبرنا عباد الله؟! وهل تذكرنا؟! وهل غيرنا من أحوالنا؟! إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه.
|