أما بعد: يقول الباري في محكم البيان: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
يخبر سبحانه أن تجمع السحاب بشارة للعباد بنزول نعمة عظيمة الفائدة كثيرة المنافع،كيف لا وبها سر الحياة، بل سر خلق كل الأحياء، إنه المطر والماء، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ.
ونحن في هذه العجالة نسلط الضوء على هديه مع هذه النعمة الجلى عبر النقاط التالية:
أولا: كان إذا تأخر المطر دعا أصحابه للاستسقاء، وواعدهم يوما وصلى بهم صلاة الاستسقاء، وخطبهم ودعا في نهايتها بمثل قوله: ((اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل))، قال: فأطبقت عليهم السماء. رواه أبو داود.
ثانيا: في حال ظهور علامات المطر كان تنتابه حالة ليست كحالنا الآن، كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه، فقالت: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهة! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟! عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) أخرجه أبو داود وهو في صحيح الأدب المفرد.
ثالثا: الفرح بالمطر إذا نزل طيبا مباركا نافعا، ومن فعله أنه يحسر عن شيء من جسده ويقول: ((حديث عهد بربه)) رواه مسلم. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: "قوله: حسر رسول الله ثوبه حتى أصابه المطر فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟! قال: ((لأنه حديث عهد بربه))، معنى حسر كشف أي: كشف بعض بدنه، ومعنى ((حديث عهد بربه)) أي: بتكوين ربه إياه، ومعناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها، فيتبرك بها".
رابعا: شكر هذه النعمة قولا وعملا طلبا لمرضاة الله، وهذا ديدن المسلم دائما، وطلبا للزيادة من أكرم الأكرمين، لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ.
ولسائل أن يسأل: لماذا كان الحبيب يفزع إذا رأى الغيم؟ ألا يشكل وجوده بين أصحابه أمانا لهم من العذاب؟! إن وجله من هذا الغيم يفسره قوله في رده على عائشة: ((ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب))، والباري بفضله وعدله لا يعذب العذاب العام لمجرد عصيان آحاد الناس، لأنه غفور رحيم لطيف بعباده يصفح عن الذنب ويكفر الزلل، بل لا يعذب إلا من تمادى وطغى، ومن حكمته وإعجاز قدرته أن يجعل ما يكون سببا للنعمة والسعادة والرزق عذابا ووبالا في كميته أو كيفيته، ألم تر أن الولد سبب لسعادة الأبوين وعزهما ولربما إذا كبر أصبح وبالا وعناء للأبوين، وربما تسبب في وفاتهما؟! فكذا المطر في أصله نعمة ساقه الباري لعباده وبلاده وبهائمه، وفي حال طوفانه وسيلانه الجارف وصولانه وجولانه يجعله العزيز الحكيم نقمة وعذابا ودمارا للبلاد والأنعام ومصالح العباد.
جاء رجل رسول الله فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله عز وجل، فدعا رسول الله فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت وانقطعت السبل وهلكت المواشي، فقال: ((اللهم على رؤوس الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)) فانجابت عن المدينة انجياب الثوب. رواه البخاري.
إن الناظر عن سبب تحول هذه النعمة إلى نقمة لا يجد سببا لذلك إلا جواب الحبيب لعائشة: ((وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟!)) هذا في زمنه فكيف بحالنا في هذه الأزمنة المتأخرة التي كثر فيها المفسدون وقل المصلحون؟! ولا أعني الصالحين، كثر التعامل بالربا وهو محادة ومحاربة لله ورسوله، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. عن ابن عباس قال: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب)، وقرأ لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ قال: (ذلك حين يبعث من قبره) أخرجه الإمام أحمد. وروي أيضا عن النبي في حديث وإن كان في صحته مقال إلا أن معناه صحيح قوله: ((ليأتين على الناس زمان من لم يأكل الربا أصابه شيء من غباره)) رواه أحمد. أما صلتنا بالله فهي هذه الصلاة التي ما سميت صلاة إلا لأنها صلة بين العبد وربه، فمن قطع علاقته بأهل الأموال مثلا فهل يرجو نوالهم وعطائهم؟! ومن قطع علاقته بالله بتخلفه عن مجالس الله وهي المساجد فهل يرجو نعمة أو شكورا؟! هل يرجو مساواة بعباد الله المؤمنين؟! أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، ومع ذلك فإن صفح الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء.
إنه والله ما تحولت هذه النعمة الجليلة -أعني المطر- إلى نقمة ووبالٍ إلا لما أحدثنا تساهلا في محارم الله وتكاسلا في الانقياد لأمر الله على مستوى الجماعات والأفراد، تقول زينب بنت جحش رضي الله عنها للنبي : أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري ومسلم. فما هو الخبث؟ إن الخبث هو كل ما نهى عنه الشرع، فهل ترضى -يا رعاك الله- بهذا الخبث أن يمس بيتك؟! أليس في تبرج النساء خبث والباري يقول: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى؟! أليس في مطالبة المفسدين ممن يطلون علينا صباح مساء بمساواة الرجل بالمرأة خبث والباري يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى، ويأبون إلا أن تكون الأنثى كالذكر؟! أليس في منع حق الله الذي كفله للفقراء والضعفة أعني الزكاة خبث بل خسة وشجع نفس لا ينقطع والباري يتوعدهم بقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ؟!
إن الناظر الحصيف والمتابع المتأمل بعين ثاقبة يجد موجة عارمة من الخبث في شتى المجالات:
المجالات الفكرية والسياسية: كمثل التفجيرات الإرهابية بدعوى الجهاد زعموا، والجهاد الشرعي مما فعلوا براء.
وخبث اجتماعي أخلاقي: في انتشار القدوات الفاسدة المفسدة الداعية للسفور والاختلاط، ومن نصبوهم وبجلوهم من الساقطين كالمغنين والمغنيات عبر قنوات فضائحية فاسدة مفسدة لا ترقب في المسلمين إلا ولا ذمة.
وخبث ثقافي: من مثل رواج كتب الإلحاد والكتب الداعية للجنس والغرام الكذوب عبر روايات ساقطة، وكأننا في مجتمع بهائمي لا يعنيه إلا غرائز بطنه وفرجه.
وبعد كل هذا الخبث ورواجه بين الناس واستسهالهم له لا تسأل عن الزاني: لم زنى؟ وأعداد اللقطاء عند المساجد والأسواق لا تخفاكم، ولا تسأل عن السارق: لم سرق؟ ونستورد ثقافة تصور السارق في صورة الداهية الذكي، ولا تسأل عن المرابي: لم وقع في الربا؟ ومعاملات المصارف المحادة لله ورسوله لا عد لها ولا حصر، وإذا تأخر المطر لا تسأل: لم تأخر؟ وإذا نزل وكان وبالا ونقمة وعذابا لا تسأل: لم كان كذلك؟ فقد كثر الخبث وقل الصالح في نفسه المصلح لغيره ومجتمعه وبلده، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بارك الله لنا ولكم في الوحيين، وأستغفر الله العلي العظيم.
|