.

اليوم م الموافق ‏22/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

المحاذير الشرعية للمظاهرات

6427

الأسرة والمجتمع, فقه

السياسة الشرعية, قضايا المجتمع

عصام بن عبد الله السناني

عنيزة

24/2/1432

جامع قرطبة

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية الأمن. 2- مفاسد اختلال الأمن. 3- كثرة الفتن في هذا العصر. 4- ذم الفتن والتحذير منها. 5- تحريم الخروج على الجماعة. 6- التزام الصحابة وأهل السنة بالطاعة وعدم خروجهم على الجماعة. 7- تحريم المظاهرات وبيان مفاسدها. 8- الاعتبار بتاريخ تونس ومصر والسودان.

الخطبة الأولى

وبَعدُ: فاتَّقُوا الله -عِبادَ الله- حَقَّ التَّقْوى.

أيُّها المسْلِمُونَ، الأمْنُ في الأوْطَانِ مَطلَبُ الكَثيرِ مِنَ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مَطْلَبُ العَالَمِ بأسْرِهِ، حَيَاةٌ بِلا أمْنٍ لا تُسَاوِي شَيئًا، كَيفَ يَعيشُ المرْءُ في حَالَةٍ لا يأمَنُ فيهَا عَلَى نَفْسِهِ حتَّى مِنْ أقْرَبِ النَّاسِ إليهِ؟! خَوفٌ وذُعْرٌ وهَلَعٌ وتَرَقُّبٌ وانْتِظَارٌ للغَدِ، لا يُفَكِّرُ الإنْسَانُ في شَيءٍ إلاَّ في حَالِهِ اليَومَ، لَيسَ عِنْدَهُ تَفْكيرٌ في مُسْتَقْبَلٌ، ومَا كانَ ذَلِكَ إلا بِسَببِ فُقْدَانِ الأمْنِ، قال الله تعالى: وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ؛ طلبَ عليه السلامَ الأمنَ؛ لأنَّ الإنْسَانَ في حَالِ الفِتْنَةِ والقَلاقِلِ يَشْغَلُهُ الخَوفُ عِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورُبَّمَا زَاغَ كَثيرًا عَن الحَقّ؛ لذا أخبرَ الرَّسُولُ أنَّ المُتَمَسِّكَ بدِينهِ في آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ تَكْثُرُ الفِتَنُ كالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ.

إذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادِتهم، فتُهجَرُ المساجدُ ويمنَعُ المسلم من إظهارِ شعائرِ دينِه، وتُعاقُ سُبُلُ الخيرِ، فتختلُّ المعايشُ، وتدمّرُ الديارُ، وتتفرَّقُ الأسَرُ، وتفارَقُ الأوطانُ، وتبورُ التجارةُ، ويتعسَّرُ طلبُ الرزقِ، وتتبدَّلُ طباعُ الخَلقِ، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحُّ. قال سبحانه: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ.

باختلالِ الأمنِ تُقتَلُ نفوسٌ بريئةٌ، وترمَّلُ نساءٌ، ويُيتَّمُ أطفال. إذا سُلِبت نعمةُ الأمنُ فشا الجهلُ وشاعَ الظلمُ وسلبتِ الممتلكاتُ، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقرِ والجوعِ، قال سبحانه: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، يقولُ معاويةُ رضي الله عنه: (إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمُّوا بها، فإنها تفسِدُ المعيشةَ، وتكدِّرُ النِّعمةَ، وتورثُ الاستئصال).

أيها المسلمونَ، إننا اليومَ في عصرٍ أخذتْ أمواجُهُ تتلاطم بألوانِ من الشرورِ، وانفتحتْ فيه على المسلمينَ موجاتُ فتنٍ وزورٍ، فتنٌ تترى ومصائبُ تتوالى تهلكُ الحرثَ والنسلَ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ، تأتي على الأخضرِ واليابسِ، تذلُ الأعزاءَ وتحيرُ العقلاءَ، فتنٌ وقودُها جثثٌ وهامُ. قالَ البخاريُّ: بَاب: الْفِتْنَة الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ عِنْدَ الْفِتَنِ: قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

الْحَـــــــرْبُ أَوَّلُ مَـــــــــا تَكُـــــونُ فَتِــــــيَّــــــــــــةً        تَسْعَى بِزِينَتِهَا لِكُــــــــلِّ جَهُــــولِ

حَتَّى إِذَا اشْتَعَـلَتْ وَشَبَّ ضِرَامُهَــا        وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيلِ

شَمْطَـــــاءَ يُنْكَـــــــــــرُ لَوْنُهَـــــــا وَتَغَيّــــــَرَتْ         مَكْرُوهَــــــةً لِلشَّــــــمِّ وَالتَّقْبِيــــــــلِ

وأخرج من حديث أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ))، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: ((الْقَتْلُ الْقَتْلُ)). قالَ حُذَيْفَةَ لعُمَرَ لمّا سأل عنْ الفتنةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا.

عباد الله، الفتنةُ إذا نفخَ فيها السفيهُ اتقدتْ نارُها وعظُمَ شررُها، وإذا وقعتْ الفتنةُ وابتلي بِها الناسُ تاهتِ العقولُ واضطربتِ النفوسُ، يقولُ شيخُ الإسلامُ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى في (منهاج السنة) وهو يتحدث عن ظهورِ أمرِ الغوغاءِ في عهدِ الصحابةِ وما وقعَ من الفتنِ: "والفتنةُ إذا وقعتْ عجِزَ العقلاءُ فيها عنْ دفعِ السفهاءِ، فصارَ الأكابرُ رضي اللهُ عنهمْ عاجزينَ عنْ إطفاءِ الفتنةِ وكفِ أهلهِا، وهذا شأنُ الفتنِ كما قالَ تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وإذا وقعتِ الفتنةُ لمْ يسلمْ منَ التلوثِ بِهَا إلاَّ منْ عَصمَهُ اللهُ".

عبادَ اللهِ، إننَا في زمانِ انتشرتْ فيه الفِتَنُ بينَ المسلمينَ، وبدأَ أقوامٌ لهم مطامحُ سياسيةٌ بتهييجِ الشعوبِ ليخترقُوا بهم أبوابَ الفتنِ، يقولُ الماورديُّ رحمه اللُه: "مع أنَّ لكلِ جديدٍ لذةً ولكلِ مستحدثٍ صبوة، وقالَ النبيُّ : ((إن أخوفَ ما أخافُ على أمتي منافقٌ عليمُ اللسانِ))، فتصيرُ البدعُ فاشيةً، ومذاهبُ الحقِ واهيةً، ثم يفضي الأمرُ إلى التحزبِ والعصبيةِ؛ فإذا رأوا كثرةَ جمعهمْ وقوةَ شوكتهمْ داخَلَهُم عزُّ القوةِ ونخوةُ الكثرةِ، فتضافرَ جهالُ نُسَّاكِهم وفسقةُ علمائِهم بالميلِ إلى مخالفيهِم، يتحد الفاسقُ من العلماءِ والجاهلُ منْ عبادِهمْ إلى المخالفينَ من أي ملةٍ كانتْ يقولُ: فإذا استتبَ لهم ذلكَ زاحموا السلطانَ في رئاستهِ وقبحوا عندَ العامةِ جميلَ سيرتِهِ، فربما انفتقَ ما لاَ يُرْتَقُ فإنَّ كبارَ الأمورِ تبدأ صغارًا".

إنَّ الواجبَ على كلِ ناصحٍ للهِ ورسولهِ يريدُ وجهَ اللهِ أن لاَّ يعرّض نفسَه وغيرَه للبلاءِ والفتنةِ؛ فربَّ متعرضٍ للبلاءِ لا يقوى على دفعِهِ، فإذا به أولُ مفتونٍ.

إن أقوامًا يعيشونَ في بلادِهم يتمتعونَ فيها بالعزةِ والكرامةِ، يعبدونَ ربَهم دونَ خوفٍ، ويمارسونَ دعوتَهم بكلِ أمانٍ، سرعانَ ما تغشاهُم الأفكارُ الدخيلةُ المنحرفةُ ليقوموا بتصرفاتٍ هوجاءٍ لا ينظرونَ إلى عواقِبها، فتضيقُ عليهم دنياهُم، ثم تمحى رسومُ دعوتِهم، بسببِ العواطفِ غيرِ المنضبطِة وعدمِ اتباعِ النبيِ في طريقتِهِ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي.

معاشرَ المؤمنينِ، إن الخروجَ على الجماعةِ والإخلالَ بالسلمِ الاجتماعي هو أصلُ كلِ بلاءٍ وقعَ في تاريخِ المسلمينَ؛ لذا حذر منها أشد التحذير في المجتمع الذي يحكمه حاكمٌ مسلمٌ ولو كان ظالمًا: ففي الصحيحين عن ابْن عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))، وعنْ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الأَشْجَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ))، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ، لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ، أَلاَ مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ))، وعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثالثة فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ))، وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : ((سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)). وفي مسلم وأصله في البخاري من حديثِ حُذَيْفَةُ قَالَ : ((يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ))، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)).

كلُّ هذا -أيها المسلمونَ- من النبي بيان لفضلِ الجماعةِ وعظمِ حرمتِها عند الله ورسوله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى (28/390): "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها".

ولننظر إلى التزام الصحابة الذين هم أبرُّ الناسِ قلوبًا وأزكاها أعمالًا بهذا الهدي النبوي:

الموقف الأول: كان الخليفةُ يزيدُ بنُ معاوية بلغ من الفسادِ في رعيتِه ما جعلَ بعضَ أهلِ المدينةِ يزمعون على الخروج عليه، فأبى أفاضل الصحابة، فقد روى مسلم قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اطْرَحُوا لأَبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). وفي البخاري أنه جمعَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ وقَالَ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ إِلاَّ كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وذكر قول النَّبِيَّ : ((يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (4/529): "وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد".

لكن غلبتْ العاطفةُ العقلَ، والهوى الاتباعَ، فلم يستمعْ الناسُ لهدي النبيِّ وأصحابِه، فخلعوا بيعةَ يزيدَ، فأرسلَ إليهم مسلم بن عقبةَ فأستباحَ المدينةَ ثلاثةَ أيامِ، قال الحافظ ابن كثير: "قتلَ خلقًا من أشرافِها وقرائِها، وانتهبَ أموالًا كثيرةً منها، ووقعَ شرٌ وفسادٌ عريضٌ... ووقعوا على النساءِ حتى قيلَ: إنه حبلتْ ألف امرأةٍ في تلكَ الأيامِ منْ غيرِ زوجٍ، والله أعلم".

الموقف الثاني: كان ابنُ عمرُ وغيره من الصحابةِ رضي الله عنهم يصلونَ خلفَ الحجاجِ على ظلمِه وجورِه، بل قدْ روى البخاريُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: ((اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)) سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ . وكان الحسنُ البصريُّ يقولُ: إن الحجاجَ عذابُ اللهِ فلا تدفعوا عذابَ اللهِ بأيديِكم، ولكن عليكم بالاستكانةِ التضرعِ، فإنَّ اللهَ تعالى يقول: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ. لكن ابن الأشعث كان له مطامحُ سياسيةٌ وكان يقول: والله لأجهدن أن أزيله عن سلطانه إن طال بي البقاء، فاستغلَ طيبةَ بعضِ الأخيارِ والصالحينَ من التابعينَ الذين يتميزونَ غيظًا من ظلمِ الحجاجِ وفجورِه، فهيجهمْ على خلعِ الحجاجِ ثم الخليفة عبدِ الملك، فخلعوه فتفرقتِ الكلمةُ وعظمَ الخطبُ، وبعدَ قتالٍ ذهبتْ فيه دماءٌ وأموالٌ انصرف المسلمون فيه عن قتالِ الكفارِ انهزمَ ابنُ الأشعثِ ومن معه، ففرَ إلى ملكِ التركِ الذي كَانَ يقاتله بعد أن كان يجاهدُهُ في اللهِ، فسلمَه لجندِ الحجاجِ، فلمَّا كَان في طريقِ العودةِ مات منتحرًا. وقُتلَ من أتباعِهِ بينَ يدي الحجاج ثلاثونَ ومائة ألف. قال شيخَ الإسلامِ ابنُ تيمية وذكر أن مفسدةَ الخروجِ أعظمُ من مصلحتِهِ في منهاج السنة النبوية (4/527): "وقلَّ من خرجَ على إمامٍ ذي سلطانٍ إلا كانَ ما تولدَ على فعلِهِ من الشرِّ أعظمَ مما تولدَ من الخيرِ"، حتى قال: "وأما أهلُ الحرةِ وابنُ الأشعثِ وابنُ المهلبِ وغيرُهم فهزموا وهُزمَ أصحابُهم، فلا أقامَوا دينًا ولا أبقَوا دنيَا، والله تعالى لاَ يأمرُ بأمرٍ لا يحصلُ بِهِ صلاحُ الدينِ ولا صلاحُ الدنيا".

عباد الله، وعلى هذا سار أهلُ السنة على هدي نبيهم وسلف هذه الأمةِ حتى صارَ ترك الخروجِ على الحكامِ شعارًا لهمْ، فهذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ إمامُ أهلِ السنةِ والجماعةِ رحمه الله حينَ أظهرَ أمراءُ بني العباسِ في زمنِه بدعةً كفريةً بدعةَ خلقِ القرآنِ ونفي الصفاتِ، بل امتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، معَ ذلكَ لم يفارقْ رحمه اللهُ شعارَ أهلِ السنةِ بلزوم الجمَاعةِ، مع أنهم ضربوه وحبسوه وآذوه أذيةً عظيمةً، بل لما جاءه قومُ من أهلِ بغدادَ وقالوا: إنَّ الأمرَ –يعنون: القولَ بخلقِ القرآنِ- قد تفاقم وفشا، ولا نرضى بإمارتِهِ ولا سلطانِهِ، فقالَ لهم الإمامُ أحمدُ كما في السنة للخلال (1/133): "لا تخلعوا يدًا من طاعةٍ، ولا تشقوا عصا المسلمينَ، ولا تسفكوا دماءَكم ودماءَ المسلمينَ معَكم، وانظروا في عاقبةِ أمرِكم، واصبروا حتى يستريحَ برٌّ أو يُستراحُ من فاجرٍ". وقال: "سبحانَ اللهِ! الدماءَ الدماءَ، لا أرى ذلك ولا آمرُ به، الصبرُ على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنةِ: يُسفك فيها الدماءُ، ويستباحُ فيها الأموالُ، وينتهكُ فيها المحارمُ، أما علمتَ ما كان الناسُ فيه؟! يعني أيام الفتنةَ".

وهذا شيخُ الإسلامِ أحمدُ بنُ تيمية الحراني رحمه الله حين نصرَ حكامُ عصرِه عقيدةَ الأشاعرةِ فآذوه أذيةً عظيمةً لنشرِه عقيدةَ السلفِ الصالحِ حتى إنه ماتَ مسجونًا رحمه الله، ومع ذلكَ ها هو يقولُ كما في الفتاوى (35/13): "وأما أهلُ العلمِ والدينِ والفضلِ فلا يرخصونَ لأحدٍ بما نهى اللهُ عنه من معصيةِ ولاةِ الأمورِ وغشِّهم والخروجِ عليهم بوجهٍ من الوجوه، كما عرفَ من عاداتِ أهلِ السنةِ والدينِ قديمًا وحديثًا"، وهو القائل: "ولعله لا يكادُ يعرفُ طائفةٌ خرجتْ على ذي سلطانٍ إلا وكانَ في خروجِهَا من الفسادِ ما هو أعظمُ من الفسادِ الذي أزالتْهُ".

 

الخطبة الثانية

عباد الله، وإن الدعوة إلى المظاهراتِ التي عمّت بلاد المسلمينَ اليومَ حتى صارتْ تقليدًا يتنادى الناس لها دون معرفة ما تؤول إليه الأمورُ بسببها لهو أمرٌ مخيفٌ مخالفٌ لقواعدِ الشريعةِ التي جاءتْ بوجوبِ المحافظةِ على الأمنِ والسلمِ، ومعاقبةِ المتعدي عليه؛ ولذا فإن هذه المظاهراتِ فيها محاذيرُ شرعية وأخطارٌ اجتماعية منها:

الأمر الأول: مفارقة الجماعةِ إذا كانت هذه المظاهراتُ مراغِمَةً للحاكم وتدعو لإسقاطه وخلعه، وقد قدمنا أحاديثَ النَّبِيِّ التي يخبر فيها عن حكام هم من شرار الحكام تبغضهم شعوبهم وتسبهم، وهم يمنعون الناس حقوقهم، ويأتون من المعاصي والمنكرات ما لا تحتمله الأنفس، ولا يهتدون بهدية ولا يستنون بسنته، وذلك غاية الضلال والفساد، ومع ذلك أرشد النبي إلى الصبر على جورهم وأداء الحقوق لهم؛ لأن من فارق الجماعة والسلطانَ شبرًا فهو يموت ميتة جاهلية، ومنْ خلعَ يدًا منْ طاعةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ؛ لما في ذلك من فتح باب الشر على المسلمين.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين (3/4): "فإذا كان إنكارُ المنكرِ يستلزمُ ما هو أنكرُ منه وأبغضُ إلى اللهِ ورسولِهِ فإِنَّهُ لاَ يَسوغُ إنكارُهُ، وإنْ كانَ اللهَ يبغضُهُ ويمقتُ أهلَه، وهذَا كالإِنكارِ على الملوكِ والولاةِ بالخروجِ عليهم، فإِنَّهُ أساسُ كلِّ شرّ وفتنةٍ إلى آخرِ الدهرِ".

فيا عباد الله، هذا فيمن يقوم بإنكار المنكر فكيف والمظاهرات في عصرنا لا تهتم لإقامة دين أو غيرة على توحيد وإنما قامت لاستئثار الحكام بالسلطة والمال وغيرها من أمور الدنيا، وهو أعظم حرمةً؛ لأن النبي أمر بأداء حقهم وإن منعوا الحقوق، فقال: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ))، وقال للأنصار كما روى الشيخانِ: ((سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكر النهيّ عن قتالِ الولاةِ الظلمةِ في منهاج السنة النبوية (5/151): "ومن أسبابِ ذلكَ أنَّ الظالمَ الذي يستأثرُ بالمالِ والولاياتِ لا يُقاتلُ في العادةِ إلاَّ لأجلِ الدنيا، يُقاتلُهُ الناسُ حتى يعطيهم المالَ والولاياتِ، وحتى لاَ يظلمُهُم، فلمْ يكنْ أصلُ قتَالِهم ليكونَ الدين كلّه للهِ وِلتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا".

الأمر الثاني: أنه لا يشك أحدٌ أن المظاهراتِ قد دخلتْ على المسلمينَ من الخارج، فهي تقليدٌ للكفّار، والنّبيّ يقول كما جاء عن ابن عمر في سنن أبي داود وغيره: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ))، وروى الشيخان عن النبي وقالَ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)). لو كانت هذه المظاهراتُ فيها خيرٌ لقام بها النبيُ ولقامَ بها السلفُ، فقدْ عذبَ المسلمونَ واضطهدوا عشرة أعوامٍ حتى استبيحتْ دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، فجاؤوا إلى النبيِّ فقالوا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟! قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)). فما أمرهم بأن يعتصموا أو يتظاهروا للمطالبة بالحقوق.

وقَتَلَ الخليفةُ العباسيُ المأمونُ العلماء وضربَ وسجنَ ومنعَ أرزَاقَ من لم يقولوا بقولِه، ومع ذلك فلم يقم العلماءُ والأئمة الذين عاصروا هذه الفتنةَ رحمة الله عليهم أجمعين بالاعتصاماتِ والمظاهراتِ الاحتجاجية. قال شيخنا العلامة ابن عثيمين وذكرَ أن المظاهراتِ لا تمتُ إلى الشريعةِ بصلةٍ ولا للإصلاحِ بصلةٍ: "الخليفةُ المأمونُ قتلَ العلماءَ الذين لم يقولوا بقولِهِ في خلقِ القرآنِ، قتلَ جمعًا من العلماءِ، وأجبرَ الناسَ على أن يقولوا بهذا القولِ الباطلِ، ما سمعنا عن الإمامِ أحمدَ وغيرِه من الأئمةِ أن أحدًا منهم اعتصم في أي مسجدٍ أبدًا، ولا سمعنا أنهم كانوا ينشرونَ معايبَه من أجلِ أن يحملَ الناسُ عليه الحقدَ والبغضاءَ والكراهيةَ، ولا نؤيدُ المظاهراتِ أو الاعتصاماتِ أو ما أشبه ذلك، ولا نؤيدُها إطلاقًا، ويمكنُ الإصلاحُ بدونِها، لكن لا بدَ أن هناك أصابعَ خفيةً داخليةً أو خارجيةً تحاولُ بثَّ مثلَ هذه الأمور". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما ما يقعُ من ظلمِهم وجورِهم بتأويلٍ سائغ أو غير سائغ فلا يجوزُ أن يزالَ أي بالخروجِ لما فيه من ظلم وجور كما هو عادةُ أكثرِ النفوسِ؛ تزيلُ الشرَّ بما هو شرٌّ منه، وتزيلُ العدوان بما هو أعدى منه؛ فالخروجُ عليهم يوجبُ من الظلمِ والفسادِ أكثر من ظلمِهم".

الأمر الثالث: أن هذه المظاهرات إذا لم تأت بها الشريعةُ فهي من دعوى الجاهلية، وقد قال النبيُ : ((وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ)). فهذه المظاهرات الغوغائيةِ هي من دعوى الجاهليةِ، روى الشيخان عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ))، وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَم امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهرِيقَ دَمَهُ)). ودعوى الجاهلية هي التناصر على الباطل وبغير ما أذن الله به.

الأمر الرابع: أن هذه المظاهرات التي لم يأذن بها الله عز وجل ورسوله إذا تضمنت مفارقة الجماعة وأدت إلى قطع الطريق وتخويف الناس وسلب الأموال فهي من الحرابة التي قال تعالى فيها: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا تأولَ السلفُ هذه الآية على الكفارِ وعلى أهلِ القبلةِ حتى أدخلَ عامةُ الأئمةِ فيها قطاعُ الطريقِ الذين يشهرونَ السلاحِ لمجردِ أخذِ الأموالِ، وجعلوهم بأخذِ أموالِ الناسِ بالقتالِ محاربينَ للهِ ورسولِه ساعينَ في الأرضِ فسادًا".

ولذا فالذين يهيّجون الشعوبَ على حكامِها لتحدثَ بعد ذلكَ الفتنُ والصداماتُ وتدمر الممتلكاتُ وتراق الدماء في الطرقاتِ وتسلب الأموال بسببِ اختلالِ الأمنِ هم أشدُّ محاربة لله ورسولِهِ من المباشرين المغرَريِن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول (1/392): "المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان، والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد".

كما يجبُ أن يعلمَ أنَّ اللهَ نهى عن التعاونِ على العداونِ، فمنْ أعانَ هؤلاء في أعمالِهم وتخريبهم ومفارقتِهم للجماعة بأدنى معاونةٍ فهو شريكهم في حرابتِهم وإحداثِهم كما قَالَ : ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا)) رواه مسلم عن عليٍّ ، قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (15/323): "ومنْ آوى محاربًا أو سارقًا أو قاتلًا ونحوهم ممن وجبَ عليه حدٌ أو حقٌ للهِ تعالى أو لآدميٍّ ومنعه أن يستوفيَ منه الواجبَ بلا عدوان فهو شريكُه في الجرمِ، وقد لعنَه اللهُ ورسولُه".

الأمر الخامس: هذه المظاهراتِ عندَ كلِّ من عرَفها هي من أعظمِ أسبابِ الفسادِ في الأرضِ بسببِ ما تؤولُ إليه غالبًا من هلاكِ الحرثِ والنسلِ كما قال تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ، قالَ العلامةُ الشوكانيُ عند تفسيرِ قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا: "نهاهم اللهُ سبحانَه عن الفسادِ في الأرضِ بوجهٍ من الوجوهِ قليلًا كان أو كثيرًا، ومنه قتلُ الناسِ، وتخريبُ منازلِهم، وقطعُ أشجارِهم، وتغويرُ أنهارِهم".

وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن المظاهرات فقالَ: "لا أرى المظاهراتِ النسائيةِ والرجاليةِ من العلاجِ، ولكني أرى أنها من أسبابِ الفتنِ، ومن أسبابِ الشرورِ، ومن أسبابِ ظلمِ بعضِ الناسِ، والتعدي على بعضِ الناسِ بغيرِ حقٍ، ولكن الأسبابَ الشرعيةَ المكاتبةُ والنصيحةُ والدعوةُ إلى الخيرِ بالطرقِ السليمةِ، الطرقِ التي سلكَها أهلُ العلمِ وسلكَها أصحابُ النبيِّ". وقال سماحته: "ولما فتحوا الشرَّ في زمانَ عثمانَ وأنكروا على عثمانَ جهرةً تمتْ الفتنةُ والقتالُ والفسادُ الذي لا يزالُ الناسُ في آثارِهِ إلى اليومِ، حتى حصلتْ الفتنةُ بين عليٍ ومعاويةَ، وَقُتِلَ عثمانُ وعليُّ بأسبابِ ذلك، وقُتلَ جمٌّ كثيرٌ من الصحابةِ وغيرِهم بأسبابِ الإنكارِ العلني وذكرِ العيوبِ علنًا، حتى أبغضَ الناسُ وليَّ أمرِهم وقتلوه نسأل الله العافية".

بل لو لم يؤد إلى ما ذكرنا فهو من الفسادِ في الأرضِ لأنه طريقٌ لم يأذن به الله، ولأنَ الذي همَّ بقتلِ أخيه باءَ بإثمِه لأنه كان حريصًا على قتلِهِ ولو كانَ هوَ المقتُول، قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (1/389): "والسّعيُّ هو العملُ والفعلُ، فمن سعى ليفسدَ أمر الدينِ فقد سعى في الأرضِ فسادًا وإنْ خابَ سعيُهُ... وهذا يقالُ لكلِّ من عملَ عملًا يوجبُ الفسادَ وإنْ لم يؤثرْ لعدمِ قبولِ الناسِ له وتمكينِهم إياه: بمنزلةِ قاطعِ الطريقِ إذا لم يقتلْ أحدًا ولم يأخذْ مالًا".

الأمر السادس: أن القيام بهذه المظاهراتِ بسببِ قلةِ الأرزاقِ أو شيءٍ من الظلمِ إضافةً إلى مخالفته للأمر بالصبرِ كماَ تقدّمَ فإنه مخالفٌ للإيمانِ بالقضاء والقدرِ الذي لا يبلغُهُ المؤمنُ حتى يعلمَ أن ما أصابَه لم يكن ليخطئَه وما أخطأَه لم يكنْ ليصيبَه، وأنَّ سببَ تسلط الحكامِ وجورِهم هو ذنوب العبادِ كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. روى أصحابُ السننِ عن أَنَسٌ قال: غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلا مَالٍ)). ولما افتقرَ أهلُ الصفة وكانوا يجوعونَ وأحدُهم ما عندَه إلا رداءٌ يغطي به سوأتَه، حتى إن أحدهم إذا صلى خلفَ النبي خرّ من قامتِه من الجوعِ والخصاصةِ، ومع ذلك يأتي النبي بعد الصلاةِ ويقول: ((لو تعلمونَ ما لكم عندَ اللهِ لأحببتم أن تزدادوا فاقة عند الله)). فهل خرجَ الناسُ في تأريخِ المسلمين الممتدِ في مظاهراتٍ غوائيةٍ إذا جاعوا ليزيدوا البلدَ تكسيرًا وفقرًا وقطعًا للطرقات وإخافةً للآمنين؟! لا؛ لأن دين الإسلامِ جاء بنفي الضرر فقال : ((لا ضررَ ولا ضرارَ))، بل أمرَ باعتزالِ الفتنِ والاستشرافِ لها، قال كما في الصّحيحين عن أبي هريرة : ((ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من السّاعي، من تشرّف لها تسْتَشْرِفْهُ، فمن وجد ملجًأ أو معاذًا فليعذ به)).

الأمر السابع: قالَ العلماءُ: السنةُ سفينةُ نوحٍ من ركبَها نجا ومن تركَها غرقَ، فلو قامَ الناسُ بما أمر اللهُ به من الصبرِ والنصيحةِ والتوبةِ من مظالمِهم الخاصةِ التي أدتْ لتسليطِ الحكامِ لتحققَ الخيرُ بإذنِ اللهِ، أما هذه الثوراتُ والفتَنُ والمظاهراتُ هي على طريقِ من قام على الحكامِ بمظاهراتٍ ثم ثوراتٍ فذمهم أهل العلمِ كأهل الحرةِ وابن الأشعثِ وابن المهلبِ وغيرهم الذين قال شيخ الإسلام عنهم: "فلا أقامَوا دينًا ولا أبقَوا دنيَا، والله تعالى لاَ يأمرُ بأمرٍ لا يحصلُ بِهِ صلاحُ الدينِ ولا صلاحُ الدنيا".

فالشعبُ التونسيُّ ثارَ على حكامِهِ في السبعينياتِ قبل خمسينَ سنةً، فتمَ إلغاءُ الملكيةِ وإعلان الجمهوريةِ، فصعدَ على رقابِ الشعبِ الطاغيةُ الذي لم يمرَّ في العصورِ المتأخرةِ من كانَ في مثلِ طغيانِهِ، وهو الذي أصدرَ مجلةَ الأحوالِ الشخصيةِ التي عطلتْ أحكامَ الشريعةِ في مجالِ الأسرةِ، وكانَ يفطرُ في رمضانَ علانيةً ويستهزئُ بالدينِ أمامَ الشعبِ، ثم ثارَ الشعبُ عليه في ثورةِ الخبزِ المشهورةِ، واليوم يتظاهرُ الشعبُ ويثورُ هناكَ على ربيبِه وابنِ نظامِهِ، فهل أغنتْ عنهم مظاهراتهُم وثورتهُم أم صدقَ عليهم أنَّهم: "لا أقامَوا دينًا ولا أبقَوا دنيَا"؟!

وفي مصرَ ثارَ الشعبُ على الملكيةِ في وقتٍ قريبٍ من ثورةِ تونسَ، فأسقطوا الملكيةَ التي كانَ الناسُ فيها أحسنَ من حالهم اليومَ، واليومَ بعدَ ستينَ سنةً يتظاهرونَ لإسقاطِ نفسِ النظامِ الذي صفقوا له وبحتْ حناجرهم في الهتافِ له، فهل أغنتْ عنهم مظاهراتهُم وثورتهُم أم صدقَ عليهم أنَّهم: "لا أقامَوا دينًا ولا أبقَوا دنيَا"؟!

وفي السودانِ انتفضَ الشعبُ على حاكمِهِ الذي وصلَ بالانتخاباتِ في أوائلِ هذا القرنِ الهجريِّ، ففرَ من البلادِ لاجئًا، ومع هذا وبعدَ ما يقاربُ ثلاثينَ سنةً يعيشُ السودانُ أسوأَ أيامِهِ بانفصالِ جنوبِهِ وعدمِ تحسنِ معيشةِ شعبِهِ، فتطالبُ الأحزابُ رئيسَه بالرحيلِ وتشتمُهَ في القنواتِ بأقذعِ الشتائمِ، فهل أغنتْ عنهم مظاهراتهُم وثورتهُم أم صدقَ عليهم أنَّهم: "لا أقامَوا دينًا ولا أبقَوا دنيَا"؟!

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً