أما بعد: أيها المسلمون، نكمل ما بدأناه في الجمعة الماضية عن الفاروق عمر بن الخطاب .
أيها المسلمون، ومن أعمال عمر في ولايته أنه رصد حصةً من بيت مال المسلمين، وخصص عددًا ضخمًا من الجمال، بوصفها وسيلة المواصلات المتاحة آنذاك لتيسير انتقال من لا ظهر له بين الجزيرة والشام والعراق، كما اتخذ ما يسمى دار الدقيق، وهي مكان يجعل فيه السويق والتمر والزبيب ومتطلبات المعيشة الأخرى، يعين به المنقطع من أبناء السبيل والضيف الغريب، ووضع في الطريق بين مكة والمدينة ما يصلح به حاجة المسافر، وما يحمل عليه من ماء إلى ماء.
أيها المسلمون، تعرضت الدولة الإسلامية في عهد عمر للابتلاء، وهذه السنة جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات، والأمة الإسلامية أمة من الأمم، فسنة الله فيها جارية لا تتبدل ولا تتغير، ومن أعظم الابتلاءات في عهد عمر عام الرمادة وطاعون عمواس.
في سنة 18هـ أصاب الناس في الجزيرة مجاعة شديدة وجدب وقحط، واشتد الجوع حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاه فيعافها من قبحها، وماتت المواشي جوعًا، وسمي هذا العام عام الرمادة، واشتد القحط، وعزت اللقمة. وهرع الناس من أعماق البادية إلى المدينة يقيمون فيها أو قريبًا منها، ويلتمسون لدى أمير المؤمنين حلًا، فكان الفاروق أكثر الناس إحساسًا بهذا البلاء وتحملًا لتبعاته، فحلف عمر لا يذوق لحمًا ولا سمنًا حتى يحيا الناس. ولقد أجمع الرواة جميعًا أن عمر كان صارمًا في هذا الوفاء بهذا القسم، ومن ذلك أنه لما قدمت إلى السوق عكة سمن ووطب من لبن، فاشتراها غلام لعمر بأربعين درهمًا، ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، وقدم السوق وطب من لبن، وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهمًا، فقال عمر: أغليت فتصدق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافًا! ثم أردف قائلا: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما لم يمسهم؟! فهذه جملة واحدة من كلمات مضيئة، يوضح فيها الفاروق مبدأ من أروع المبادئ الكبرى التي يمكن أن تعرفها الإنسانية في فن الحكم (كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم؟!).
نظر ذات يوم في عام الرمادة، فرأى بطيخه في يد ولد من أولاده، فقال له على الفور: بخٍ بخ يا ابن أمير المؤمنين! تأكل الفاكهة وأمة محمد هزلى؟ فخرج الصبي هاربًا يبكي، ولم يسكت عمر إلا بعد أن سأل عن ذلك، وعلم أن ابنه اشتراها بكف من نوى.
كما قام عمر بوقف حد السرقة في عام الرمادة، وهذا ليس تعطيلًا لهذا الحد، فالذي يأكل ما يكون ملكًا لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام يكون غير مختار، فلا يقصد السرقة. وأوقف إلزام الناس بالزكاة في عام الرمادة، ولما انتهت المجاعة وخصبت الأرض، جمع الزكاة عن عام الرمادة واعتبرها دينًا على القادرين.
وفي العام الثاني عشر من الهجرة وقع شيء فظيع مروع، هو ما تذكره المصادر باسم طاعون عمواس، وقد سمي بطاعون عمواس نسبة إلى بلدة صغيرة يقال لها: عمواس، وهي بين القدس والرملة، لأنها كان أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها، فنسب إليها. وكان حصول الطاعون في ذلك الوقت بعد المعارك الطاحنة بين المسلمين والروم، وكثرة القتلى، وتعفن الجو وفساده بتلك الجثث أمر طبيعي، قدره الله لحكمة أرادها. فهلك به خلق كثير، منهم: أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس، ولم يرتفع عنهم الوباء إلا بعد أن وليهم عمرو بن العاص، فخطب الناس وقال لهم: أيها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار، فتجنبوا منه في الجبال، فخرج وخرج الناس، فتفرقوا حتى رفعه الله عنهم، فبلغ عمر ما فعله عمرو، فما كرهه.
أيها المسلمون، اهتم عمر بأمر الجند فنظم ديوان الجيش، وسار في تقسيم الأرزاق فيه على أساس القربى من النسب النبوي الشريف والسابقة للإسلام، وبذلك أصبح في مقدمة أصحاب المعاشات آل بيت رسول الله وهم بنو هاشم وكان العباس يتسلمها ويوزعها عليهم، ثم زوجات النبي وتختص كل واحدة بمعاش مستقل عن آل البيت، أما بقية المسلمين فقد قسموا إلى طبقات حسب ترتيب اشتراكهم في الجهاد في سبيل الله، فبدأ بأهل بدر، ثم من حاربوا بعد بدر إلى الحديبية، ثم من حاربوا من الحديبية إلى آخر حروب الردة ثم من تلاهم من شهد القادسية واليرموك وهكذا، كما أنه جعل مخصصات لزوجات المحاربين وأطفالهم منذ الولادة ولم يُغفل أمر الغلمان، واللقطاء، بل خصص لهم أعطيات سنوية، أدناها مائة درهم، تتزايد عند بلوغهم، كما فرض للموالي من ألفين إلى ألف. وقد رأى الخليفة عمر أن لكل مسلم حقًا في بيت المال، منذ أن يولد حتى يموت، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله: والله الذي لا إله إلا هو ما من أحد إلا له في هذا المال حق أُعطيَه أو مُنِعَه، وما أحد بأحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقَسمنا من رسول الله فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقَدَمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يُخمَّرَ وجهه.
وكان عمر حريصًا على أن لا يولي أحدًا من أقاربه رغم كفاية بعضهم وسبقه إلى الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أني وجدت رجلًا قويًا أمينًا مسلمًا أستعمله عليهم. فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا.
وكان عمر يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواءً أكانوا بائعين أو مشترين. روي أن عاملًا لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا وأخذ منه ما حصل عليه من ربح.
وكان يحصي أموال العمال والولاة قبل الولاية ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا.
وكان عمر أشد ما يخشاه أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئًا من الأموال بسبب ولايتهم، وقد قام بمشاطرة أموال عماله، وقام أيضًا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إذا ما رأى مبررًا لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلًا: إني لم آلِ لك عملًا؟ فقال عمر: ولكن أخاك على بيت المال، فهو يقرضك المال تتجر به.
وكان الوفد إذا قدموا على عمر سألهم عن أميرهم فيقولون خيرًا، فيقول: هل يعود مرضاكم؟ فيقولون: نعم، فيقول: هل يعود العبد؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها: لا عزله.
وكان يطلب من ولاته القادمين إلى المدينة أن يدخلوها نهارًا ولا يدخلوها ليلًا، حتى يظهر ما يكون قد جاؤوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب.
وكان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملًا كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رهطًا من الأنصار: أن لا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم فاشهد.
وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد والتواضع للناس، وهي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة واللباس والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجبًا في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع، وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار.
أيها المسلمون، كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصيًا لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولًا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا، وقد طبق عمر شيئًا من هذا خصوصًا في ولاية الشام حيث سار إليها عدة مرات وتفقد أحوالها ودخل بيوت ولاتها وأمرائها، ليعرف أحوالهم عن كثب.
استعمل عياض بن غنم على الشام فبلغه أنه اتخذ حمامًا واتخذ نوّابًا، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثًا، ثم أذن له ودعا بجبة صوف، فقال البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة وقال انعق بها، فنعق بها، فلما جازه هنيهة، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بكذا وكذا، اذهب فذهب، حتى إذا تباعد ناداه: يا عياض أقبل، فلم يزل يردده حتى عرّقه في جبينه، قال أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر فقال: انزع عليها، فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها، فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران أو ثلاثة، ثم دعاه فقال: هيه اتخذت نوابًا واتخذت حمامًا أتعود قال: لا. قال: ارجع إلى عملك. وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياض بعد ذلك من أفضل عمّال عمر .
أيها المسلمون، كان أمير المؤمنين الفاروق مثالًا للخليفة العادل المؤمن، المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها، فكان القائد الأعلى للجيش، والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النـزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، والصادق المؤمن بالله ورسوله، والسياسي المحنك المجرب، والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سدًا منيعًا أمام الفتن، وكان عمر نفسه بابًا مغلقًا لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده.
حج عمر سنة 23هـ فلما نفر من منى أناخ بالأبطح، فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فاقبضني غير مضيِّع ولا مفرط، ثم قدم المدينة.
وآخر خطبة جمعة خطبها في المدينة قال فيها: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي، رأيت كأن ديكًا نقرني نقرتين، وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجَل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض.
أيها المسلمون، كان عمر لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيؤون للتآمر والكيد ضده، ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين، ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة على كره منه، ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه.
بارك الله لي في القرآن العظيم...
|