أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَسَلُوهُ سُبْحَانَهُ الْإِعَانَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ أُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أُعِينَ عَلَى الْخَيرِ كُلِّهِ، وَنَالَ مَحَبَّةَ الله تَعَالَى؛ ذَلِكَ أَنَّ الْنَّبِيَّ أَوصَى مَنْ يُحِبُّ بِهَذَا الْدُّعَاءِ، فَقَدْ أَخَذَ بِيَدِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ، وَالله إِنِّي لَأُحِبُّكَ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: الْلَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))، فَكَانَ رُوَاةُ الْحَدِيثِ مِنْ مُعَاذٍ فَمِنَ دُونَهُ يُوصُونَ مَنْ يُحِبُّونَ بِهَذَا الْدُّعَاءِ، وَالشُّكْرُ وَصِيَّةُ الله تَعَالَى لِمَنْ أُنْعِمَ عَلَيهِمْ: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الْشَّكُورُ [سَبَأٍ: 13].
أَيُّهَا النَّاسُ، بِمَاءِ الْغَيثِ تَحْيَا الْأَرْضُ وَتَزْدَانُ، وَيَفْرَحُ الْنَّاسُ بِهِ وَالْأَنْعَامُ، فَهُوَ أَثَرٌ لِرَحْمَةِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ فِي عِبَادِهِ. بِهِ يُزِيلُ اللهُ تَعَالَى يَأْسَهُمْ، وَيُذْهِبُ رِجْزَهُم، وَيَجْلِي هَمَّهُمْ، وَيَكْشِفُ كُرَبَهُمْ، وَيَرْفَعُ الْضُّرَّ عَنْهُمْ، وَيُنَزِّلُ عَلَيكُمْ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الْشَّيطَانِ [الْأَنْفَالِ: 11].
مِنْ غَيثِهِ المُبَارَكِ يَشْرَبُونَ، وَمِنْ نِتَاجِهِ يَأْكُلُونَ، وَبِهِ يَتَطَهَّرُونَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ الْسَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالْزَّيتُونَ وَالْنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ [الْنَّحْلِ: 11].
فَحُقَّ لِلْنَّاسِ أَنْ يَتَحَرَّوهُ وَيَنتَظِرُوهُ، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَتَنَاقَلُوا أَخْبَارَهُ، وَحُقَّ لَهُمْ إِذَا سُقُوا أَنْ يَفْرَحُوا، وَمَنْ لَا يَفْرَحُ بِأَثَرِ رَحْمَةِ الله تَعَالَى فِي عِبَادِهِ؟! فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ الله كَيفَ يُحْيِيِّ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا [الْرُّومُ: 50].
إِنَّ الْغَيثَ المُبَارَكَ رَحْمَةٌ مِنَ الله تَعَالَى يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ لِيَشْرَبُوا وَيَأْكُلُوا وَيَتَطَهَّرُوا، وَوَاجِبٌ عَلَيهِمْ أَنِ يَعْرِفُوا لِهَذِهِ الْنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ قَدْرَهَا، وَيَجْتَهِدُوا فِي شُكْرِهَا، مُسْتَحْضِرِينَ أَثَرَ هَذِهِ الْنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي مَشَارِبِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ وَطَهُورِهِمْ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَجَدَ فِيهِ تَنْوِيهًا بِهَذِهِ الْنِّعَمِ الْثَّلَاثِ فِي الْغَيثِ مَعَ تَذْكِيرِ الْخَلْقِ بِشُكْرِهَا فِي كُلِّ مَوضِعٍ:
فَفِي نِعْمَةِ الْشُّرْبِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ لَو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَولَا تَشْكُرُونَ [الْوَاقِعَةُ: 70] أَي: فَهَلَّا شَكَرْتُمُوهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي نِعْمَةِ المَآكِلِ آيَاتٌ كَثِيرةٌ تُعَلَّلُ بِالْشُّكْرِ أَو فِيهَا بَيَانُ قِلَّةِ الْشُّكْرِ فِي الْنَّاسِ، أَو فِيهَا أَمْرُهُمْ بِالْشُّكْرِ. وَالمَآكِلُ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَلَا حَيَاةَ لَهُمَا إِلَّا بِالْغَيثِ؛ وَلِذَا تَغْبَرُّ الْأَرْضُ بِدُونِهِ، وَتَنْفَقُ الْأَنْعَامُ بِفَقْدِهِ، فَيَجُوعُ الْنَّاسُ وَيَمُوتُونَ، وَفِي الْتَّارِيخِ سَنَوَاتٌ عِجَافٌ كَثِيرَةٌ أُرِّخَتْ بِسَنَوَاتِ الْجَفَافِ وَالْقَحْطِ وَالْجُوعِ وَالمَوتِ، قَدْ حُبِسَ الْغَيثُ فِيهَا عَنِ الْنَّاسِ، فَفَقَدُوا المَآكِلَ فَجَاعُوا وَهَلَكُوا، وَانْتَبِهُوا لِلْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْرِّزْقِ وَالْأَكْلِ تَجِدُوهَا مُذَيَّلَةً بِالْشُّكْرِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [الْبَقَرَةِ: 172]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ الله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [الْنَّحْلِ: 114]. وَإِنَّمَا يَأْكُلُ الْنَّاسُ مِنْ نِتَاجِ الْأَرْضِ الَّذِي سَبَبُهُ الْغَيثُ، فَجَعَلَ اللهُ تَعَالَىْ مَعَاشَ الْنَّاسِ وَأَرْزَاقَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الْأَعْرَافِ: 10]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الْطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْأَنْفَالِ: 26]، وَفِي ثَالِثَةٍ: فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الْرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [الْعَنْكَبُوتِ: 17]، وَفِي رَابِعَةٍ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوُا لَهُ [سَبَأٍ: 15]، وَالْخَلِيلُ إِبْرَاهيمُ عَلَيهِ الْسَّلَامُ حِينَ دَعَا لَنَا بِالْرِّزْقِ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالْشُّكْرِ؛ لِعِلْمِهِ بِمَقَامِ الْشُّكْرِ عِنْدَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ فَقَالَ عَلَيهِ الْسَّلَامُ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إِبْرَاهِيمَ: 37]، وَهُوَ قُدْوَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُ فِي شُكْرِ الْنِّعَمِ؛ إِذْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَولِهِ سُبْحَانَهُ: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ [الْنَّحْلِ: 121].
وَجَمَعَ اللهُ تَعَالَى نِعْمَتِي المَاءِ وَالْطَّعَامِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، جَعَلَهَا سُبْحَانَهُ دَلِيلًا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، مُسْتَوجِبَةً لِشُكْرِهِ عَلَى نِعَمِهِ: وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ المَيتَةُ أَحْيَينَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 35] أَي: لَمْ يَعْمَلُوا بِأَيدِيهِمْ هَذِهِ الْعُيُونَ المُتَفَجِّرَةَ بِالمَاءِ، وَلَا هَذِهِ الْجَنَّاتِ المَلِيئَةَ بِالْطَّعَامِ وَالْثِّمَارِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى لَهُمْ، حِينَ أَحْيَا أَرْضَهُمْ، وَفَجَّرَ مَاءَهُمْ، وَأَنْبَتَ زَرْعَهُمْ، وَأَخْرَجَ ثِمَارَهُمْ، أَفَلَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ؟! لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ. إِي وَعِزَّةِ رَبِّنَا وَجَلَالِهِ، لَمْ تَعْمَلْهُ أَيدِينَا، فَهَلَّا شَكْرَنَا اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا رَزَقَنَا وَأَعْطَانَا؟!
لَقَدْ كَانَتْ نِعْمَتَا المَشْرَبِ وَالمَأْكَلِ مُسْتَحْضَرَةً عِنْدَ الْنَّبِيِّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَشْرَبُ فِيهَا أَو يَأْكُلُ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله إِذَا أَكَلَ أَو شَرِبَ قَالَ: ((الْحَمْدُ لله الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَيَسْتَحْضِرُ هَاتَينِ الْنِّعْمَتَينِ عِنْدَ الْخُلُودِ إِلَى الْنَّومِ فَيَشْكُرُ اللهَ تَعَالَى عَلَيهِمَا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ الله كَانَ إِذَا آوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: ((الْحَمْدُ لله الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِيَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا نِعْمَةُ الْتَّطَهُّرِ بِالمَاءِ فَجَاءَ الْتَّنْوِيهُ بِهَا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ حِينَ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فُرُوضَهُما وَأَحْكَامَهُمَا، ثُمَّ خَتَمَهَا بِقَولِهِ سُبْحَانَهُ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْمَائِدَةِ: 6]، فَالمَاءُ وَالتَّطَهُّرُ بِهِ وَبَيَانُ أَحْكَامِ الْتَّطَهُّرِ كُلُّهَا نِعَمٌ تَسْتَوجِبُ الْشُّكْرَ، فَهَلَّا شَكَرْنَا اللهَ تَعَالَى عَلَيهَا؟! وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الْمَائِدَةِ: 6].
إِنَّنَا مَهْمَا عَدَدْنَا نِعَمَ الله تَعَالَى عَلَينَا فِي الْغَيثِ المُبَارَكِ فَلَنْ نُحْصِيَهَا، وَهِيَ نِعَمٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَ أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْنِعَمِ: الأَكْلُ وَالْشُّرْبُ وَالتَّطَهُّرُ، وَإِذَا كُنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَهَا فَنَحْنُ عَاجِزُونَ عَنْ شُكْرِهَا، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالَى بِنَا أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّفْنَا مِنَ الْشُكْرِ إِلَّا مَا نَسْتَطِيعُ، فَهَلْ يَلِيقُ أَنْ نُقَصِّرَ فِيمَا نَسْتَطِيعُ مِنَ الْشُكْرِ وَهُوَ قَلِيلٌ بِالْنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الْنِّعَمِ وَعَظَمَةِ المُنْعِمِ سُبْحَانَهُ؟! قَالَ سُلَيمَانُ التَّيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى قَدْرِهِ، وَكَلَفَهُمْ الشُّكْرَ عَلَى قَدْرِهِمْ".
أَعُوذُ بِالله مِنَ الْشَّيطَانِ الْرَّجِيمِ، يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ الْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فَاطِرِ: 3].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
|