عباد الله، بمناسبة نزول هذا الغيث العميم والخير العظيم من المنان الكريم فإني في هذه الخطبة أقف وإياكم وقفة تدبر وتأمل في كتاب ربكم وسنة نبيكم في حديث عجيب عن المطر.
أيها المؤمنون، المتأمل لكتاب الله وسنة نبيه يجد أن الله تبارك وتعالى قد اختص بعلمه بإنزال الغيث، لا يشاركه فيه أحد، قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ)) متفق عليه.
وفي نزول الأمطار وتصريفها بين البلاد وإنزالها بقدر معلوم لعبرةً لأولي الأبصار وعظةً للعصاة والفجار، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة: "ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله –أي: المطر- بقدر الحاجة حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو، فهما -أعني الصحو والغيم- يعتقبان على العالم لما فيه صلاحه، ولو دام أحدهما كان فيه فساده، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار وعفنت الزروع والخضروات وأرخت الأبدان وخثَّرت الهواء، فحدثت ضروب من الأمراض وفسد أكثر المآكل وتقطعت المسالك والسبل، ولو دام الصحو لجفت الأبدان وغيض الماء وانقطع معين العيون والآبار والأنهار والأودية وعظم الضرر واحتدم الهواء، فيبس ما على الأرض وجفت الأبدان وغلب اليُبس، وأحدث ذلك ضروبا من الأمراض عسرة الزوال، فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم، فاعتدل الأمر وصح الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر واستقام أمر العالم وصلح".
والمتدبر للقرآن -يا أمة القرآن- يجد أن المطر رحمة ونعمة من الله جلّ وعلا، كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ. وأحيانًا يكون المطر نقمة وغضبًا من الله، قال تعالى: فَكلًا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا، وقال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.
وقد دلت نصوص الوحيين أن هذه النعمة تستجلب بأسباب كثيرة عامة وخاصة:
منها الإيمان وتقوى الله، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاء والأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ كَانُوا يَكْسِبُونَ.
ومنها الاستقامة على دين الله ونهجه كما قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة لأسقَينَاهُم مَاءً غَدَقًا.
ومنها الاستغفار كما قال تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا.
ومنها صلاة الاستسقاء لحديث عبد الله بن زيد الأنصاري أن رسول الله خرج إلى المصلى يستسقي وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه. متفق عليه.
ومنها الدعاء أثناء الخطبة لحديث أنس بن مالك أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي قائم يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله عز وجل يغيثنا، فرفع يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا(( متفق عليه.
ومنها إخراج الزكاة الواجبة، فقد جاء في السنن بسند حسن: ((ولم يَمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائمَ ما أُمطِروا)).
وهذه النعمة بتأمل النصوص نجد أنها متعددة الفوائد والثمار، فمن ذلك أنها سبب لوجود الرزق، قال تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وإحياء للأرض الموات قال تعالى: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. والمطر مطهر قال تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وشراب لنا وسقيا لزروعنا قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ.
أيها المباركون، سنة نبيكم جعلت بين أيدينا جملة من الآداب والسنن عند نزول الغيث، احفظوها وتمثلوها وعلموها أهليكم تأسيا برسولكم ، حشرني الله وإياكم في زمرته ومن هذه الآداب:
1- التعرض له: فعن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله مطر، قال: فحسر رسول الله ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟! قال: ((لأنه حديث عهد بربه تعالى)) رواه مسلم.
2- أن نقول الذكر الوارد عند نزول المطر، وقد وردت عدة أذكار منها: ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا رأى المطر قال: ((صيبًا نافعًا))، ومنها ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يقول إذا رأى المطر: ((رحمة))، ومنها قول: ((مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله)) كما في حديث خالد بن زيد عند البخاري.
3- ومما يستحب عند نزول المطر الدعاء العام: فهو من مواطن استجابة الدعاء، كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه وحسنه الألباني عن سهل بن سعد عن رسول الله أنه قال: ((ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر)).
4- وإذا كثر المطر وخيف ضرره يسن أن يقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام –أي: الهضاب- والجبال والآجام –أي: منبت القصب- والظراب –أي: الجبال- والأودية ومنابت الشجر)) كما جاء في حديث أنس المتفق عليه من أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا))، قَالَ أَنَسُ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)) قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
وصح عن عبد الله بن الزبير أنه إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) ثم يقول : (إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|