عباد الله، إن الله تَعَالَى يبتلي عباده بالمصائب في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، لا لِيُهْلِكَهُم بها؛ وإنما لِيَمْتَحِنَ صبرَهم وعبوديَّتَهُم؛ فإنَّ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلاَ على عباده عُبُودِيَّةً في الضَّرَّاء، كما أن له عليهم عبودية في السَّرَّاء، وله عليهم تَعَالَى عبودية فيما يكرهون، كما له جَلَّ وَعَلاَ عبودية عليهم فيما يحبون.
فالمؤمن كامل الإيمان الذي يوقن بلقاء الله جَلَّ وَعَلاَ يتخذ الصبر سلاحًا يواجِهُ به كُلَّ بَلِيَّةٍ وقعتْ به؛ لتكون عاقبةُ أمره إلى خير، ولتنقلب الْمِحْنَةُ في حَقِّهِ إلى مِنْحَة، ولتستحيل البَلِيَّةُ في حَقِّه إلى عَطِيَّةٍ.
وحقيقةُ الصبر -يا عباد الله- أن يحبس المسلمُ النفسَ عن التَّسَخُّطِ بالمقدور، وأن يحبس اللسان عن الشكوى، وأن يحبس الأركان عن الوقوع في المعصية كاللطم وشَقِّ الثوب ونَتْفِ الشَّعْر ونحو ذلك.
قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] أي: يعطَون أجرَهُم يغير عدد ولا مقدار؛ لعظيم ما قاموا به مِن عَمَلٍ خَيِّرٍ وبِرٍّ مُسْتَحَسْنٍ. ويقولُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155]، فهو تَعَالَى يخبر في هذه الآية عن سنته في عباده؛ وهي ابتلاؤهم بشيء من الخوف، ولم يقل: (بخوف)؛ لأنه لو قال: (بخوف) لأهلكهم؛ وإنما يبتليهم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ؛ لأنَّ مقصُودَهُ تَعَالَى تَمْحِيصُهُم وتطهيرهم من ذنوبهم ومعاصيهم. بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ: إما بالفقر، وإما بتلف الأموال وتلف التِّجَارات. وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ أي: بذهاب الأحباب من الأولاد والأهل والأقارب والأصحاب، ويدخل في ذلك أنواع المرض الذي يَحلُّ ببدن العبد، أو يحل ببدن مَن يُحِبُّ. وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ أي: الحبوب وثمار المحصول ونحو ذلك. فهذه سنة الله جَلَّ وَعَلاَ في عباده، يبتليهم بصنوفٍ من البلاء.
وهم في ذلك على قسمين: قسم جازِع، وقسم راضٍ.
أما الجازع فإنه قد جمع إلى نفسه مصيبتين عظيمين؛ الأولى: فوات المحبوب، وهو الذي قد وقع عليه في المصيبة؛ لأنه لا راد لها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده. والثانية: فوات الأجر العظيم الذي رتبه الله جَلَّ وَعَلاَ للصابرين على ما أصابهم.
وأما القسم الثاني من الناس فهم الصابرون الذين قال الله جَلَّ وَعَلاَ عنهم في هذه الآية: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ أي: بشرهم بأن الله جَلَّ وَعَلاَ يُعطِيهم أجرهم بغير عدد وبغير مقدار؛ جزاءً لهم على عظيم ما قاموا.
ثم وصف الله جَلَّ وَعَلاَ هؤلاء الصابرين فقال: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة: 156]. إِنَّا لِلَّهِ أي: نحن مَمْلُوكُونَ لِلَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُدَبَّرُونَ تحت عَوْنِهِ وتَصَرُّفَاتِهِ؛ فإذا أوقع بنا مصيبة وهو أرحمُ الراحمين فقد تصرَّف بحكمة فينا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فلا يَتَسَخَّطُون، ولا يَتَذَمَّرُون؛ وإِنَّما يصبِرُون.
فالجزاُء ها هنا جزاءٌ عظيم؛ قال الله جَلَّ وَعَلاَ: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ أي: ثناء عَطِر، وتمجيد لما قاموا به من فعل محمود. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ: رحمة عظيمة؛ جَزَاء وِفَاقًا [النبأ: 26]. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 157]: الْمُوَفَّقُون لِلْحَقِّ في باب الْمَصائِبِ.
عباد الله، إن المؤمن الحقَّ أمرُهُ كله خير في السراء وفي الضراء، أتعجبون من ذلك؟! لقد عَجِب رسول الله من ذلك فقال: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحْدٍ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ)).
وإن من أعظم حكم الله جَلَّ وَعَلاَ في ابتلاء عباده المؤمنين الذين صبروا أن يُكَفِّر اللُه جَلَّ وَعَلاَ عنهم ذنوبَهم وخطاياهم، أو أن يرفع درجاتِهم في عِلِّيِّين. يقول ابنُ مسعود : دخلتُ على النبي وهو يُوعَكُ وَعْكًا شديدًا أي: من الْحُمَّى التي أصابته، فقلت: يا رسول الله، إنَّك تُوعَكُ وَعْكًا شديدًا، فقال: ((نَعَمْ؛ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ))، فقلت: يا رسول الله، ذلك بأن لك أجرًا؟ قال: ((أَجَل؛ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ شَوْكَةٌ فَمَا دُونَهَا إِلاَ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطَايَاهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا))، وجاء في الترمذي عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لاَ يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُسْلِمِ حَتَّى يَدَعَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
فعلينا جميعًا -يا عباد الله- أن ننظر في المصائب بهذه النظرة المؤمنة؛ فلا شك أن الله جَلَّ وَعَلاَ خالِقُنا ورازِقُنا، وأنه جَلَّ وَعَلاَ أرحمُ بنا من أنفسنا، وما أصابنا بمصيبة إلا لصالح لنا دينًا أو دنيا.ونعلم كذلك أن كل مصيبة تصيبنا إنما هي قضاء وقَدَر لا بد من وقوعه؛ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].
فإذا علم المؤمن ذلك وغيره؛ تَحَمَّل المصائب، وتَقَبَّلَها بِصَدْرٍ رحب. لكنَّ غير المؤمن يَضِيق ذرعًا، وتضيق عليه الدنيا بما رَحُبَتْ؛ لأنه لا يلجأ إلى الله، ولا يَتَّجِهُ إليه؛ فخاب وخَسِر والعياذُ بالله.
|