إخوة الإسلام، كل ما يصيب الأمة من مصائب وكوارث ومحن إنما هو بسبب ما كسبت أيديهم كما بين الله ذلك بقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، فالله تعالى رحيم بأمة حبيبه ، يعفو عنها ويرحمها ويخفف عنها ويتجاوز عن كثير من سيئاتها، ويرحمها أيضا بدعاء عبد صالح من عباده.
كلنا عشنا ما حدث في مدينتنا جدة من سيول وفيضانات وغرقى بالمئات ودمار لمساكن كثيرة، وهناك أصوات كثيرة تنادي بضرورة الاستغفار والإكثار منه، وهذا حق يجب أن لا يخفى على أحد، فرسولنا وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر ربه في اليوم أكثر من مائة مرة، لكن هذا لا يعني أن هؤلاء المساكين والفقراء الذين أغرقوا ودمرت مساكنهم كثيرو الذنوب؛ حيث إن هناك مناطق تكثر فيها الذنوب والمعاصي ولم يأتها الطوفان، فالأمر بيد الله، هو الذي يتصرف كيفما يشاء ويحكم ما يريد، وليس لبشر أن يحدد أماكن العقوبة وغيرها، بينما في الغالب أن الأغنياء المترفين هم الذين يكونون سببا في تدمير أنفسهم ومن حولهم، لا سيما إذا بعدوا عن منهج الله، يقول تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا صدق الله العظيم. ورسولنا يقول: ((إنما ترزقون بضعفائكم))، فالفقراء المطيعون لله هم الناجون، وهم الذين يرحمهم الله ويرحم بهم، وكما قال : ((رب أشعث ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره)). هذا الأشعث الأغبر الذي يدفع بالأبواب ولا يسمح له بالدخول لهيئته لو أقسم على الله بأمر من الأمور لاستجاب الله لقسمه وحققه له فورا.
أيها المؤمنون، إن السبب الحقيقي لهذه الكوارث والذي لا شك فيه هو تضييع الأمانة، نعم تضييع الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، فإباء الجبال والسموات والأرض عن حمل الأمانة لا يعني عصيانا في أداء الأمانة، إنما الإباء هنا عن حمل الأمانة لأنها ثقيلة ومكلفة، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً.
إنها الأمانات التي وصى الله بها من فوق سبع سموات: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، ومدح الله عباده الصالحين الحافظين للأمانة فقال: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ.
إنا الأمانة -عباد الله- التي أقضت مضاجع الصالحين، وهان على الإنسان أن يسفك دمه ولا يخون أمانته، وهان على العبد الصالح أن يلقى شدائد الدنيا ولا يخون أمانته، قال : ((لا إيمان لمن لا أمانة له))، زمن تلبس بالخيانة فبئس -والله- البطانة، فإن فيه خصلة من خصال المنافقين، قال : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) رواه البخاري. فكم من الناس حولنا يكذبون ويخلفون المواعيد ويخونون، هل يظنون أن ذلك خاف على الله تعالى؟! الناس تعودوا على هذا الأسلوب، ولا أحد ينكر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، الناس تظن أن خيانة الأمانة فقط في الأموال وأدائها، وهذا غير صحيح، فالأمانة أكبر من ذلك بكثير، فإذا ضاعت الأمانة سفكت الدماء وانتهكت الأعراض وأكلت أموال المسلمين بالباطل، إذا ضاعت الأمانة وتفشت الخيانة فباطن الأرض خير من ظهرها.
وأعظم ما تكون خيانة الأمانة إذا كانت خيانة لله ولرسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وأعظم ما تكون الخيانة إذا كان فيها ظلم للقرابات كالأبناء والبنات بتضييع حقوقهم والاستهتار في واجباتهم، هذا خيانة للأمانة، ترك الحبل على الغارب للأولاد والبنات يسهرون ويعبثون دون حسيب ولا رقيب خيانة للأمانة، ترك تربيتهم وتوجيههم وإرشادهم خيانة للأمانة، تركهم يشاهدون القنوات الفضائية ليلا ونهارا خيانة؛ لأنهم مع الزمن سوف يكتسبون العادات الفاسدة والثقافات الفاسقة المقنّنة والتي يخطط لها علماء النفس الذين يعرفون كيف يفسدون ويدمرون أولادنا. إذا تركتهم نائمين والصلاة ينادي بها منادي الله فقد ضيعت الأمانة إن لم توقظهم للصلاة.
عباد الله، أعظم ما تكون الخيانة إذا كانت بالكذب والزور في الشهادات والمستندات والعبث فيها، قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يقولها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري. كررها لأن شهادة الزور من أعظم الخيانات، بها تؤكل أموال المسلمين بالباطل، وبها تسفك الدماء البريئة، وبها تنتهك أعراض المسلمين بدون حق، فشاهد الزور -وما أكثرهم اليوم- خان الله ورسوله، وخان القاضي الذي شهد أمامه حينما ائتمنه أن يكون صادقا في شهادته، وخان من شهد له لأنه أدخل عليه شيئا حراما سواء كان مالا أو غيره، وخان المظلوم حينما شهد عليه واقتطع منه حقه بشهادة الزور... إلخ.
فالأمانة شديدة، وحملها أشد، فاتقوا الله أيها المسلمون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة...
|