حديثنا اليوم أيها الإخوة هو: كيف ننمي في أنفسنا الثقة في قدرة الله المطلقة، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وعلى كلّ مسلم أن لا يشعر باليأس أو الإحباط بسبب ما يدور حولنا وما نعيشه من أحداث ومصائب ونكبات، وأوضح مثال يقوي هذه الثقة في قلوبنا وينميها هو قصة فرعون وموسى، وأن فرعون أخبره المنجمون والسحرة بأن غلاما من بني إسرائيل يولد يكون فيه نهايته ونهاية حكمه، فأعلنت الطوارئ، وصدرت الأوامر من فرعون بذبح المواليد الذكور، والذي كان يظن أنه بعمله هذا يغير قدر الله ويبطل الرؤيا وأثرها. وهكذا من البداية صدر الحكم البشري بإعدام موسى قبل أن يولد، قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ.
وتبين هذه الآية الكريمة أسلوب فرعون في الحكم، وهو القائم على سياسة "فرق تسد"؛ ليتمكن من السيطرة على المجتمع، وهذا معنى قوله تعالى: وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا أي: مجموعات معه وتعمل من أجله، وكما يقول فراعنة عصرنا اليوم: "من ليسنا معنا فهو ضدنا".
وانظروا بعجب لعظيم قدرة الله كيف يحول المخاطر التي نراها نحن كبشر إلى أسباب أمن، كما حول سبحانه النار وجعلها بردا وسلاما على إبراهيم، فيشاء السميع العليم أن يولد موسى، فتخاف عليه أمه، فيوحي الله إليها: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ.
الله أكبر! انظروا إلى عجيب قدرة الله، يقول لها سبحانه: أرضعيه وإذا خفت عليه شيئا فارميه في البحر. عجبا! كيف يدرك ذلك البشر؟! إذا خفت عليه وإذا طرق الجند الباب ليقتلوه فارميه في البحر بدلا من أن تحميه وتخفيه! إنها قدرة الله الواحد الأحد الذي يقول للشيء: "كن" فيكون، سبحانه وتعالى عما يصفون، رمي الطفل في اليم يعني هلاكه، لكنه لموسى سبب نجاة؛ لأن الجنود لو مسكوه كان مصيره القتل الحتمي، فكيف لو رآه فرعون بنفسه؟! إنها النهاية، وسبحان الله كيف تكون النهاية في نظر البشر هي البداية في تنفيذ قدر الله.
أيها المسلمون، التقط آل فرعون التابوت وفيه موسى، وكما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. وحين شاهدوه ألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون، وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.
ونعود إلى أم موسى؛ كيف حالها بعد أن نفذت أوامر ربها فأرضعته ثم وضعته في التابوت وألقته في اليم، قال تعالى واصفًا حالها: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. لو نطقت الأم لهلك موسى، لو ولولت وقالت: "ولدي" لهلك الولد، إلا أن الإرادة الربانية سبقت بحماية الطفل، وثبّت الله فؤادها، وربط على قلبها. وفي الربط على قلب أم موسى درس بليغ لأهمية تنمية القدرة على ضبط انفعالات النفس في كل الأحوال؛ حتى لا يصدر منها ما يؤدي إلى هلاكها من حيث لا تعلم.
أيها الإخوة المؤمنون، ثم تتَّابع الأحداث: بعد أن ربط الله على قلبها أصبحت قلقة، وتريد أن تعرف مصير ابنها، قال تعالى: وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. وفي هذه الآية أيضا إشارة لطيفة ومهمة إلى أهمية ضبط الانفعالات، نجده واضحا فيما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (لما قالت أخت موسى عليه السلام: وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ قال فرعون: وما أدراك أنهم له ناصحون؟! فقالت بسرعة ودون تلعثم أو ارتباك: لحرصهم على رضا الملك) أي: رضاك أنت.
قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وأن ما قدره الله هو الذي سوف يتحقق وينفذ، ليس ذلك فقط، بل فرعون بنفسه وقوته ورجاله يبعث لموسى عن مرضعات من كل مكان، ويرفض الطفل حتى يؤتى له بأمه، فسبحان الله الفعال لما يريد! فرعون يبحث عن هذا الغلام لكي يقتله، فيأتي الله بالغلام إلى بيت فرعون مجردًا من كل قوة ومن كل حيلة وطفلا عاجزا عن أن يدافع عن نفسه أو حتى يستنجد بمن يحميه، وكأن الله تعالى يقول -ولله المثل الأعلى- لفرعون: لا تُتعب نفسك في البحث والتقتيل، فها هو الغلام بين يديك، فإن كان لك كيد أو تدبير فاصنع ما تشاء وما قدناه نحن هو الذي سوف يكون.
أحبتي في الله، تربى موسى في قصر فرعون، وتحت رعايته وإشرافه المباشر، وكانت أمه ترضعه وتأخذ أجرة على ذلك، وكان فرعون هو الذي يوفر له كل احتياجاته ولوازمه، وتنتهي مدة الرضاع وفترة الصِّبا، ويبلغ موسى أشدّه، ويستوي عوده، ويكتمل نضجه العضوي والعقلي، فيؤتيه الله حكما وعلم. وبينما موسى يتجول في المدينة في وقت الظهيرة حين تغفو العيون كما قال تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ. فأجمعوا أمرهم على قتل موسى، فنصحه ناصح بالخروج من البلاد وإلا سوف يقتل، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فسقى لهما، وتوالت القصة، وتزوج بإحداهما، ومكث المدة المتفق عليها وهي عشر سنوات، ثم خرج بأهله راجعا إلى مصر التي خرج منها خائفا يترقب، وفي الطريق اشتد البرد وضل الطريق وفقد النار التي تدفيه، وبينما هو في هذه الظروف القاسية إذ رأى نارا، فأتى هذه النار فإذا هي نور عظيم، وعندها خير كثير، فناداه المولى بقوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. ومن هنا تبدأ مرحلة النبوة والدعوة والجهاد.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا...
|