أمّا بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيّها المسلمون، تفضَّل الله على خلقِه بتنوُّع العبادات، منها ما هو باطنٌ في القلب، ومنها ما هو ظاهرٌ على الجوارِحِ، وأركانُ الإسلام والإيمان مدارُها على ذلك.
وقد عاد الحجيجُ من بيتِ الله الحرام والمشاعِر بعد أداء أطول عبادةٍ بدنية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "واستعمل النبيُّ أبا بكرٍ على أوَّل حَجَّةٍ حُجَّت من مَدينة النبيِّ ، وعِلمُ المناسك أدقّ ما في العبادات، ولولا سعَة علم أبي بكرٍ لم يستَعمله النبيّ أميرًا على الحجِّ في السنة التاسِعة، ليُعلِّم الناسَ أحكام الحج؛ لأنه أفقه الصحابة".
في الحجِّ تَظهَر عظمة الإسلام في توحيدِ الشعوب على الحقّ وجمعِهِم على كلمة الإسلام، يقصِدون مكانًا واحدًا، ويدعون ربًّا واحدًا، ويتَّبِعون نبيًّا واحدًا، ويتلون كتابًا واحدًا، فيه تزولُ فوارقُ زُخرف الدنيا، ويظهر الخَلقُ سواسيةً لا تمايُز بينهم في المظهر، فالجميع في لباسٍ كلباس الأكفان.
والله سبحانه يُظهِرُ آياتٍ لخَلقِه على صدق رسله، فإبراهيم يدعو ربَّه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37]، فاستجاب الله دعاءه:، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. قال ابن كثير رحمه الله: "فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصِدونها من سائر الجهات والأقطار".
والمخلِصُ يستجيب الله دعوَتَه ولو بعد مماتِه، وفي كلّ عامٍ يظهر أثرُ دَعوةِ الخليل، فيستجيبُ المسلمون لدعوته، ويَقصِدون مع مشقَّة السفر واديًا لا زَرعَ فيه؛ ليُظهِروا افتقارهم إلى الله بوقوفهم في عرفات والمشاعر، وذُلِّهم للرب سبحانه بتجرُّدهم من المخيط وحَلقِ رؤوسهم خضوعًا له.
والله سبحانه وعد بحفظ هذا الدين، ومع تطاوُل الزمان وتقلُّب الأحوال، ووجود الكثير من الحروب والفتن والفقر والرخاء، إلا أنَّ هذا الدينَ بقِيَ ناصعًا تامًّا مُبيَّنًا كأنَّ الوحي نزَل اليوم، فيلبَسون ما لبِس النبيُّ من إزارٍ ورِداء، ويُلبُّون بتلبيته، ويَرمون كما رمى، ويطوفون بالبيت كما طاف.
والوَفاءُ من شِيَم الرجال، ونبيُّنا محمّد صبر على الأذَى والكروب لتنعَمَ أمّتُه بالهداية، قال لعائشة رضي الله عنها: ((يا عائِشَة، لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ)) رواه البخاري. والصحابةُ رضي الله عنهم هجَروا الأوطانَ وتغرَّبوا في البلدان لحملِ رسالة النبيِّ وتبليغها بعزمٍ وأمانة، ونشرِ الإسلام في الآفاق بالدعوة والقدوة. وواجبٌ على المسلم أداءُ حقوقِ النبيّ لما قدَّمه لهذا الدين من محبَّته عليه الصلاة والسلام والتأسِّي به، والوفاء لصحابته رضي الله عنهم بمحبتهم والترضِّي عنهم والذبِّ عنهم.
والإخلاص لله في كل عملٍ شرطٌ في قبوله، والله غنيٌّ عَزيز، لا يقبل عملاً لم يُرَد به وجهه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يقبل منَ العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغِي به وجهُه)) رواه أبو داود. ومن أدخل في عبادته رياءً أو سمعة أو ابتغَى مدحَ الناس له لم تُقبَل منه عبادتُه، ولن يكون له منها سوى التعب والنَّصَب، قال الله عزّ وجلّ في الحديث القدسيّ: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي فيه غيري تركتُه وشِركَه)) رواه أحمد. ومن أخلص لله تقبَّل الله عمَلَه وضاعَف أجرَه، قال سبحانه: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة: 261]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: بحسب إخلاصه في عمله".
ومن اقتفى أثرَ النبي في حجِّه حريٌّ به التأسِّي به في شأنِه كلِّه، وذلك سبيل الظَّفَر والفلاح، قال عزّ وجلّ: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ترَكتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضِلُّوا: كتابَ الله وسنتي)) رواه مسلم.
والنِّعمُ تدومُ وتزيدُ بالشكر، ومن أدَّى عبادةً وحمِدَ الله عليها يسَّر الله له عِبادةً بَعدَها لينالَ ثوابَها، قال سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17]، ولذا شُرِع قولُ: (الحمد لله) ثلاثًا وثلاثين مرّة دُبُر كلِّ صلاة مفروضة؛ لشُكر الله على أداء تلك الفريضة.
وأمارةُ قبول العمل الصالحِ الحسنةُ بعده، قال سعيدُ بن جبير رحمه الله: "مِن ثوابِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبةِ السيّئةِ السيّئةُ بعدها".
والمسلم إذا فرغَ من عبادةٍ أعقبَها بعبادةٍ أخرى، قال سبحانه: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7]. قال ابن الجوزي رحمه الله: "أي: فادأَب في العمل". ولا تنقطعُ عبادةُ المسلِم إلا بالموت، كما قال سبحانه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
وإذا عَمِل المسلم عملاً صالحًا وَجَبَ عليه حِفظُه بالحَذَر مِنَ الوقوع في الشرك؛ إذ هو يُحبِط الحسنات، قال جل وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. قال ابن القيِّم رحمه الله: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سلَبَ رؤيةَ أعماله الحسَنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغَلَه برؤية ذنبه".
وسؤالُ الله قبولَ العمل الصالح مِن صِدقِ الإيمان، بنى إبراهيم عليه السلام الكعبةَ ودعا ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127]. والثبات على الدين من عزائِم الأمور، ومن دعاء النبيِّ : ((ثبِّت قلوبنا على دينك)) رواه ابن ماجه.
ومن لبَّى في حجِّه بالتوحيد وكبَّره في العيد وجَبَ عليه الوفاءُ بوعده مع الله، وذلك بأن لاَّ يدعو سواه، ولا يلجأ إلى غيره، ولا يطوف بغيرِ الكعبة، قال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13]. ومن توجَّه إلى الله أعانه، قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69].
وليس من شَرطِ صِحّة الحجّ زيارةُ المدينة، بل قصدُ مسجدها سنةٌ رغَّب فيها النبيّ للحاج وغيره بالصلاة فيه، فهو أحَدُ المساجد الثلاثة التي لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلَيها، قال : ((لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مَسَاجِد: مسجدِي هذا، والمسجِد الحرام، والمسجد الأقصى)) متفق عليه. وصلاةٌ فيه عن ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام.
ومن وَصَل إلى المدينةِ وسلَّم على النبيِّ وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فمِنَ المشروع له زيارةُ مسجِدِ قُباء، قال عليه الصلاة والسلام: ((من تطهَّر في بيته ثم صلَّى في مَسجِد قُباء كان له أجر عُمرة)) رواه ابن ماجه. ويُشرع له زيارةُ مقبرةِ البقيع وشُهداء أُحُد للدّعاء لهم وللعِظَة والعبرة بتذكُّر الآخرة.
والميت لا يملك لأحدٍ نفعًا ولا ضرًّا، ولا يتعلَّق به، وإنما يُدعَى له بالمغفرة والرضوان، ومن يُدعَى له لا يُدعَى مع الله، قال سبحانه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106].
والمُوفَّق من اجتَهَد في طاعةِ ربِّه، وسارَ على هديِ نبيِّه عليه الصلاة والسلام، وحاسَبَ نفسَه في حَياتِه، وسارَع إلى الخيرات، وفازَ بالباقيات الصالحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلِمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|