أمّا بعد: فاتَّقوا الله عباد الله، وأخلِصوا له العمَلَ وراقِبوه.
أيُّها المسلمون، غايَةُ المُنى لأولي النُّهَى دُخولُ الجنة دار النعيم المُقيم والنظرُ فيها إلى وجهِ الربِّ الكريم، ثوابًا من عند الله أعدَّه لمن آمن وعَمِل صالحًا يرجو به إلى الله الزُّلْفى وحُسنَ المَآب.
ألا وإنَّ من أعظم الأعمال أجرًا وأرفعها مقامًا الحجَّ المبرور الذي أوضح نبيُّ الهدى صلوات الله وسلامه عليه جزاءَه بقوله في الحديث الذي أخرجه الشّيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة)). وإنه لجزاءٌ ضافٍ يحفِزُ هِمَم أولي الألباب، ويستحِثُّ خُطى المتَّقين لإدراكه والظَّفَر به، ويحمِلهم على تبيُّن حقيقة الحجِّ المبرور الذي وُعِد عليه بهذا الموعود.
إنّه -يا عباد الله- الحج المقبول الذي لا يُخالطه شيءٌ من الإثم، وهو الذي وقَع موافقًا لما طُلِب من المسلِمِ على الوجهِ الأكمل، ولا يكون كذلك إلا بإخلاصِ الحاجِّ لله ومتابعتِهِ رسولَ الله في أدائِه، وذلك يقتَضِي مِنه أن يُعلِّقَ قلبَه بربِّه وحده، مُستيقنًا أنَّ الأمور كلَّها بيده سبحانه، وأنه المُعطي المانع، النافع الضار، المُحيي المُميت، وأنَّ غيره لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملك مَوتًا ولا حياةً ولا نشورًا، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13، 14]. فيُقبِل عليه، ويصرف كلَّ أنواعِ العبادةِ إليه، مُتذكِّرًا أن التوجُّهَ إلى غيره بأيِّ لون من ألوانِ العبادة شِركٌ مُحبِطٌ للعَمَل، مُستَحضِرًا قولَ ربِّه سبحانه في مآلِ أعمال مَن أشرك به: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23].
وأيُّ مقامٍ أجدَرُ بأن يُذكَر فيه اسمُ الله ويُسار فيهِ على طريقِ خَليلِ الله في إعلانِ التوحيدِ لله من مقامِ الحاجِّ عند بيتِ الله الذي قَصَدَه، وفي مناسكِ حجِّه التي تلبَّسَ بها، وفي متابَعَة رسول الله بالاهتداءِ بهديِه والاستنان بسنّته وتقديمِ قوله على قول كلِّ أحدٍ من النّاس مهما عظُمَ شأنُه وعلا كعبه وتألَّق نجمُه؛ امتثالاً لأمر الله القائِل سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وامتثالاً لقوله: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54].
بهذه المتابعةِ يطمئنّ الحاجّ إلى موافقةِ الصواب في أعمالِ حجِّه؛ فإنَّ النبيَّ بيَّن لأمَّته في حجّة الوداع، بيَّن لهم المناسكَ بيانًا واضحًا جليًّا لا خفاءَ فيه قائلاً: ((لتأخُذوا عني مناسِكَكم)) كما جاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه في وصف حجة النبي . أخرجه مسلم في صحيحه وغيره.
وبهذه المتابعة يحذر الحاجّ من الوقوع في كلّ ما يجرَح حجَّه أو يُنقِصُ أجرَه، لا سيّما حين يعلم ما جاء في سنَّته عليه الصلاة والسلام من كريمِ الأجر لمن صَانَ حجَّه عن كلِّ ما يُكدِّر صفوَه، وذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدَته أمّه)). والرَّفَث هو: غِشيانُ النساء ودواعيه والكلام فيه وتَكرار النظر على وجه الاستمتاع، وأمّا الفسوق فيدخلُ فيه أعمالُ الفسق وما يحرم من الكلام كالكذب والغيبة والنميمة والسِّباب والجدال المُفضِي إلى الخصومة وإيغار الصدور، لا سيّما إذا اقترن برفعِ الأصوات بالكلام الذي يتأذّى به سامعه.
فإذا استشعر الحاجّ في كل خطوةٍ يخطوها وفي كلّ منسكٍ يُؤدِّيه أنه في هذا المكان الشريف والبِقاع المُطهَّرة الذي اجتمع فيها شرفُ المكان وشرفُ الزمان وشرفُ الشعائر استيقَن أنه لا مكانَ فيها لرفَثٍ ولا لفسوقٍ ولا لجدال، فيُمضِي أيّام حجِّه مُنفِقًا كلَّ جزءٍ من وقته في طاعة ربّه؛ تلاوةً وذكرًا وصلاةً وطوافًا بالبيت وإنفاقًا في وجوه البر وإحسانًا في كلِّ ضروب الإحسان؛ فإنَّ النفقة في الحجّ مما يُخلَف على صاحبه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيحٍ عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ رسول الله قال لها في حُجرتها: ((إنَّ لكِ من الأجر على قدرِ نصَبِكِ ونفَقَتكِ))؛ على أن تكون من كسبٍ حلالٍ طيبٍ؛ فإنّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيِّبًا، فيُعقِبُه ذلك [ويُخلِفُه] لذَّةً وسرورًا وانشراحًا وحبًّا لله تعالى ولرسوله ولدينه كلما أقبل على ربه واشتغل بمرضاته. ويرجع إلى بلده وقد صارت حالُه أحسَنَ مما كانت عليه، وهو علامةٌ عند كثيرٍ من العلماء على الحجّ المبرور.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على أن يكون حجُّكم مبرورًا بالإخلاصِ لله فيه؛ فإنه مدارُ العمَل وروحه، وبالمتابعة لرسولِ الله والاهتداءِ بهديه وتقديم قوله على قول كلّ أحدٍ غيره، وإطابة الكسب والنفقة، والحذر من الرياء والسمعة والفخر والخُيَلاء، واجتناب الرَّفَث والفُسوق والجِدال وكلِّ ما يُنافي مقصود الحجّ أو يُنقِصُ أجره أو يصرفه عن حقيقَتِه، أو يُغيِّر صِفتَه التي شرعها الله وبيَّنها رسوله في صحيح سنَّته، حتى لا تذهبَ مشقَّة السفر ونفقاته وعناءُ مفارقة الأهل والأولاد والأوطانِ سُدى بشَوبِها بما يُفسِد الأعمالَ أو يُنقِصُ أجرها أو يُذهِب بالمقصود منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنّة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولجميعِ المسلمين من كلّ ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
|