أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مُكتَسَب، وطاعته أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيُّها المسلِمون، لقد اصطَفى الله نبيَّنا محمَّدًا لتحَمُّل أعباءِ الرّسالة وتبليغِ الشّريعة، النبيُّ المُعظَّم، والرَّسول المُكرَّم، سيِّدُ ولد آدم بالاتِّفاق، وخيرُ أهلِ الأرض على الإطلاق، الجوهَرةُ بالباهرة، والدُّرَّةُ الزاهرة، وواسِطةُ العِقدِ الفاخرة، عبدُ الله ورَسولهُ ونبيُّه، وصفِيُّه ونجِيُّه، ووليُّه ورَضِيُّه، وأمينُه على وحيِه، وخِيرته من خَلقِه، الذي لا يَصحُّ إيمانُ عبدٍ حتى يُؤمنَ برسالته ويشهدَ بنبوَّته .
سيِّدُ المرسلين والمُقدَّم لإمامَتِهم، وخاتم النبيِّين وصاحبُ شفاعتهم، أوّل من تنشقُّ عنه الأرض يومَ القيامة، وأوَّل شافعٍ يوم القيامة، وأوَّل من يجوز الصراط من الرّسل بأمَّته يوم القيامة، وأكثرُ الأنبياءِ تابعًا يومَ القيامة، صاحبُ اللّواء المعقود والمقام المحمود والحوض المورود، عبدُ الله المُصطفى ونبيُّه المُجتبَى ورسوله المُرتَضَى. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (ما خلَق الله وما ذَرَأ وما بَرَأ نفسًا أكرمَ عليه من محمّدٍ ، وما سمعتُ الله أقسمَ بحياة أحدٍ غيره". قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأقسمَ بحياتِه، وفي هذا تَشرِيفٌ عظيمٌ ومقامٌ رفيعٌ وجاهٌ عريض".
أيّها المسلمون، وإظهارًا لفضله وعظيم شرفه وعلوِّ منزلته ومكانته وإرادةً لتكريمه ورفع ذكره وتنويهًا بمِنَّة رسالته ونعمة بعثته وتذكيرًا بوجوب حبِّه واتباعه شرَعَ الله الصلاةَ على النبيِّ ، وجعَلَها قُربةً جليلةً وعبادةً عظيمة، قال جلّ في عُلاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
للخَلقِ أُرسِل رحمةً ورَحيمًا صلُّوا عليه وسَلِّموا تَسلِيمًا
أيُّها المسلمون، ويَنالُ العبدَ من ثوابِ الله وكرامته ومغفرته وصلاته بسبَبِ صلاته على أشرفِ الخلق ما يشاءُ الله أن ينالَه، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((من صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه عشرًا)) أخرجه مسلم، وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى عليه عَشرَ صلوات، وحطَّ عنه عَشرَ خطيئات، ورُفِعت له عَشرُ دَرَجات)) أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان، وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه عن النبي قال: ((ما من مسلمٍ يُصلِّي عليَّ إلا صلَّت عليه الملائكة ما صلَّى عليَّ، فليُقِلَّ العبدُ من ذلك أو ليُكثِر)) أخرجه أحمد وابن ماجه.
أيُّها المسلمون، والإكثارُ منَ الصلاة على النبيِّ سببٌ لغفرانِ الخطايا وزوال الهموم والبلايا، فعَن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، إني أُكثِر الصلاةَ عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ أي: دعائي، قال: ((ما شئتَ))، قلتُ: الرّبع؟ قال: ((ما شئتَ، فإن زِدتَّ فهو خَيرٌ لك))، قلتُ: النصف؟ قال: ((ما شئتَ، فإن زِدتَّ فهو خيرٌ لك))، قلتُ: فالثُّلُثَيْن؟ قال: ((ما شئتَ، فإن زِدتَّ فهو خيرٌ لك))، قال: أجعل لك صلاتي كلَّها؟ قال: ((إذًا تُكفَى همَّك، ويُغفر لك ذنبُك)) أخرجه أحمد والترمذي.
أيّها المسلمون، وجاءتِ السنةُ بتأكيد الصلاة على النبي يوم الجمعة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((صلاةُ أمّتي تُعرَضُ عليَّ في كل يومِ جُمعة، فمن كان أكثرَهم عليَّ صلاةً كان أقربهم مني منزلاً)) أخرجه البيهقي وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "لا بأس بإسناده". وعن أوس بن أوسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثِروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضةٌ عليَّ))، فقالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أرِمتَ؟! يعني: بلِيتَ، فقال: ((إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء)) أخرجه أحمد وأبو داود. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "رسول الله سيِّدُ الأنام، ويوم الجمعة سيّد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزِيَّةٌ، ومِن شكره وحمده وأداء القليل من حقّه أن نُكثِر الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته" انتهى كلامه رحمه الله تعالى بشيءٍ من التصرُّف.
أيّها المسلمون، ويُستحبُّ استفتاحُ الدّعاء بحمدِ الله وتمجيدِه والثناءِ عليه، ثمّ الصلاة على رسوله ، وختمه بهما، فعن فضالة بن عُبيد قال: سمِعَ رسولُ الله رجلاً يدعو في صلاته، لم يُمجِّد الله، ولم يُصلِّ على النبيِّ ، فقال رسول الله : ((عجِلتَ أيّها المُصلِّي))، وعلَّمه رسول الله . ثم سمع رسول الله رجلاً يُصلِّي، فمجَّد الله وحمِدَه وصلَّى على النبي ، فقال رسول الله : ((ادعُ تُجَب، وسَلْ تُعطَ)) أخرجه الترمذي.
أيّها المسلمون، والأذانُ مِن شعائر الإسلام ومعالمه الظاهِرة وعلاماته البارزة، فكان من تشريفِ الله لنبيه أن شُرِعَت الصلاةُ عليه عقِبَه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّه سمع النبي يقول: ((إذا سمِعتم المُؤذِّن فقولوا مثلَ ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمَن سأل ليَ الوسيلة حلَّتْ له الشفاعة)) أخرجه مسلم.
أيّها المسلمون، وصلاةُ المؤمنين على النبيِّ وسلامُهم عليه معروضةٌ عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لله ملائكةً سيَّاحين في الأرض يُبلِّغوني من أمتي السلام)) أخرجه أحمد والنسائي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ما من أحدٍ يُسلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أرُدَّ إليه السلام)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ومن الخرافات التي يعتقدها بعضُ العوام أن النبي يمُدُّ يدَه لمن يُسلِّم عليه عند قبره، وأن ذلك قد حصل لبعض الأولياء، وكل هذا باطل وخرافةٌ لا أصل لها، وكل ما قيل من أن النبي مدَّ يده لبعض من سلَّم عليه فغيرُ صحيح، بل هو وهمٌ وخيالٌ لا أساس له من الصحة.
أيّها المسلمون، ومن لوازم محبته أن تتحرَّك الألسُن بالصلاة والسلام عليه كلّما ذُكِر، وإن من الجفاء وقلة الوفاء ومن التقصير وقلة التوقير أن يُذكَر سيّد البشر فتُحجِم الألسن عن الصلاة والسلام عليه، فعن الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما أن النبي قال: ((البخيلُ الذي ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ)) أخرجه أحمد والترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((رغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ)) أخرجه الترمذي.
أيها المسلمون، إن المجالس اللاهية والاجتماعات الساهية والنوادي اللاغية نقصٌ على أربابها وحسرةٌ على أصحابها، وقد جاء في القوم يجلِسُون ولا يذكُرون الله ولا يُصلُّون على النبي ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما جلَسَ قومٌ مجلِسًا لم يذكروا الله فيه ولم يُصلُّوا على نبيِّهم إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذَّبَهم، وإن شاء غفرَ لهم)) أخرجه الترمذي. ومعنى ((تِرَة)) أي: حسرة وندامة. وعند ابن حبان: ((ما قَعَدَ قومٌ مقعدًا لا يذكرون الله فيه ولا يُصلُّون على النبيّ إلا كان عليهم حسرةً يوم القيامة، وإن أُدخِلوا الجنة للثواب)).
فطيِّبُوا مجالِسَكم بذكر الله عزّ وجلّ، والتفقُّه في دينه، وتعلُّم سنّة نبيه وسيرته وهديه وطريقته وأخلاقه وشمائله، واقتدوا به واتَّبعوه تنالوا عِزَّ الدنيا وشرفها، وثواب الآخرة ونعيمَها، واحذَروا مجالِسَ الغناء والطَّرَب والشيشة والدخان والمُخدِّرات والمُسكِرات، واحذروا المقاهيَ المليئةَ بالمنكرات والمُوبِقات وفاحِش الأفلام والقنوات.
أيّها المسلمون، ويُشرعُ الصلاة على النبيِّ كتابةً كلّما كُتِب اسمه الشّريفُ، ويُكرِّر ذلك كلما تكرَّر اسمه ، ولا يسأمُ من تكرير ذلك عند تكرُّره، وليجتنِبَ المسلمُ كتابةَ الصلاة على النبيّ منقوصة، رامزًا إليها بحرفٍ أو حرفين، كمن يكتب (ص) أو (صل) أو (صلعم) لأنّ ذلك غيرُ لائقٍ بحقه . قال الحافظ العراقي رحمه الله تعالى:
واجتنبِ الرمزَ لها والحَذفَا منها صلاةً أو سلامًا تُكفَى
فصلَّى الله وسلَّم على نبيّ الرحمة صلاةً وسلامًا مُمتدَّيْن دائمَيْن إلى يوم الدين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه كان للأوَّابين غفورًا.
|