أمَّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، واذكروا وقوفَكم بين يديه، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].
أيُّها المسلمون، صَونُ النفس عن الإيذاء والتجافي بها عن التجنِّي وحجزُها عن العدوان خُلُقٌ رفيع ومنقبةٌ عظيمةٌ لأُولي الألبابِ الذين يستَيقنون أن عاقبةَ الإيذاء للمؤمِنين بُهتانٌ وإثمٌ مبين، يحتَمله صاحبُه، وينوء بثِقَله، ويذِلُّ ويخزى بمآله يوم يُعرَضُ على ربِّه، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58].
ولا ريبَ أنَّ من أعظم الإيذاءِ للمؤمنين والمؤمنات إثمًا وأشدّه ضررًا ذلك الذي تُسلَّط سهامُه على من اصطفاه الله واجتَباه لنصرةِ دينه وصُحبة نبيِّه وحِفظ كتابه والذَّوْد عن حياضه وتبليغ شرعه من آله الطاهرين وأصحابه الطيبين وأزواجه أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين، وهو إيذاءٌ تتابَعَت حلقاته وتعدَّدت صُوره في ماضي الأيام وحاضِرها حتى بلغ مداه اليومَ في عُدوانٍ سافرٍ جَعل سيرةَ الصِّدِّيقةِ بنتِ الصِّدِّيق أمّ المؤمنين حبيبةِ رسولِ الله عائشةَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها، جعل منه ساحةً له متجاهلاً ذلك التحذيرَ النبويَّ الوارد في حديث أمّ سلمة رضي الله عنها حين قالت له عليه الصلاة والسلام: إنَّ الناسَ يتحرَّون بهداياهم يومَ عائشة، فمُرهم فليدورُوا معك حيث دُرْت، فقال : ((لا تُؤذيني في عائشةَ، فإنّه والله ما نزَل عليَّ الوحيُ وأنا في لحافِ امرأةٍ منكنّ غيرها)).
وكيف لا يكون إيذاؤها رضي الله عنها إيذاءً له وقد كانت أحبَّ الناسِ إليه؟! كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن عمرو بن العاصِ رضي الله عنه أنّه سأل النبيَّ : أيُّ الناس أحبّ إليك يا رسولَ الله؟ قال: ((عائشة))، قال: فمن الرجال؟ قال: ((أبوها))، وكفَى بهذا فضلاً وشرفًا عظيمًا.
وهي التي اختارَها الله تعالى زَوجًا لنبيِّه ، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه الشّيخان في صحيحَيهما عنها رضي الله عنها أنها قالت: قالَ رسول الله : ((أُريتُكِ في المنامِ ثلاثَ ليالٍ، جاء بكِ الملكُ في سَرَقةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتُك، فأكشِفُ عن وَجهكِ فإذا أنتِ فيه، فأقول: إن يكُ هذا من الله يُمضِه)). ورؤيا الأنبياء وحيٌ لا شكَّ فيه.
وهي زوجُه في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسنادٍ جيّدٍ عنها رضي الله عنها أنَّ جبريل جاء بصورتها في خِرقة حريرٍ خضراء إلى النبيِّ فقال: هذه زوجتُك في الدنيا والآخرة. وفي مستدرك الحاكم بإسنادٍ صحيحٍ عنها رضي الله عنها أنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، مَن مِن أزواجك في الجنّة؟ قال: ((أما إنّكِ منهنّ)).
وقد أخبرها النبيُّ بسلام جبريلَ عليه السلام كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحَيهما عنها رضي الله عنها أنها قالت: قالَ رسولُ الله : ((يا عائشَة، هذا جبريل، وهو يقرأ عليكِ السّلام))، قالت: وعليه السلام ورحمةُ الله، ترى ما لا نرى يا رسول الله.
وبيَّن فضلها على النساء بقوله: ((كمُل من الرّجال كثير، ولم يكمُل من النّساء إلا آسية امرأتُ فرعون، ومريم ابنةُ عمران، وفضل عائشةَ على النساءِ كفضل الثريد على سائرِ الطعام)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وكان النبيّ لكمالِ محبَّته لها وعظيم منزلتِها عندَه يُعينها على التمتُّع بما تحبّ من المباحات، كما جاء في الصحيحين عنها رضي الله عنها أنها قالت: لقد رأيتُ رسولَ الله يقوم على بابِ حجرتي والحبشةُ يلعَبون بالحِراب في المسجد، وإنه ليسترني بردائِه لكي أنظرَ إلى لعبِهم، ثم يقفُ من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف. وفي رواية: حتى أكون أنا التي أسأَم. وفي روايةٍ للنسائي قالت: وما بي حبُّ النظر إليهم، ولكنّي أحببتُ أن يبلغَ النساءَ مقامُه لي ومكاني منه.
وقد كان من بركتِها على الأمّة أن كانت رضي الله عنها سَببًا لنزولِ آيةِ التيمّم، كما جاء في الصحيحين عنها رضي الله عنها قالت: خرجنَا مع رسولِ الله في بعضِ أسفارِه، حتى إذا كنّا بالبيداءِ أو بذاتِ الجيشِ انقطع عِقدي، فأقام رسولُ الله على التِماسِه، وأقام الناسُ معه، وليسُوا على ماءٍ، فأتى الناسُ أبا بكرٍ رضي الله عنه فقالوا: ما ترى ما صنَعَت عائشة؟! أقامت برسولِ الله وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر فقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصِرتي، فلا يمنعني من التحرُّك إلا مكانُ النبيِّ ، حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آيةَ التيمّم فتيمَّموا، فقال أُسيد بن حُضَيْر: ما هذا بأوَّل بركتِكم يا آل أبي بكر، قالت: فبَعثنا البعيرَ التي كنتُ عليه فوجدنا العِقد تحته. وفي روايةٍ للإمام أحمد في مسنده قالت: يقول أبي حين جاء من الله الرخصةُ للمسلمين: والله، ما علمتِ يا بُنيَّة إنكِ لمباركة، ماذا جعل للمسلمين في حبسِكِ إياهم من البركة واليُسْر.
وكان لها رضي الله عنها في الإحسانِ إلى الخَلق والبِرِّ بهم وبذل المعروف لهم أروعُ الأمثال، فقد أخبر عروةُ بن الزبير أن معاويةَ رضي الله عنه بعث مرةً إليها رضي الله عنها بمائة ألف درهم، فوالله ما أمسَت حتى فرَّقَتها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريتِ لنا بدرهم لحمًا! فقالت: ألا قلتِ لي؟! وعن عطاء بن رباح رحمه الله أنَّ معاوية بَعَث إلى عائشة رضي الله عنها بقِلادةٍ بمائة ألف، فقسَمَتها بين أمّهات المؤمنين.
وقد كانت مع كثرةِ فضائِلها رضي الله عنها تخشى الثناءَ وتتّقيه، فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما استأذن على عائشةَ وهي مغلوبة -أي: بمرض الموت- فقالت: أخشى أن يُثنِيَ عليَّ، فقيل: ابن عمّ رسول الله ومِن وجوه المسلمين، قالت: فأذنوا له، فقال: كيف تجدينَكِ؟ فقالت: بخيرٍ إن اتَّقيت، قال رضي الله عنه: فأنتِ بخيرٍ إن شاءَ الله، زوجة رسول الله ، ولم يتزوَّج بكرًا غيرَكِ، ونزل عُذرُكِ من السماء، فلمّا جاء ابن الزبير قالت له: جاء ابن عباس وأثنى عليَّ، وودِدتُ أني كنتُ نسيًا منسيًّا.
ومما جعل الله في حياتها رضي الله عنها من البركة هذا العلمُ الكثير الذي رَوَته عن رسولِ الله وذلك الفقه الغزير الذي حمَله الناس عنها، وحسبُها رضي الله عنها مع هذه الفضائلِ الكثيرة ما حدَّثَت به فقالت: تُوفِّي رسول الله في بيتي وفي يومِي وليلتي وبين سَحْري ونَحْري، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواكٌ رطْب، فنظر إليه النبي حتى ظننتُ أنه يريده، فأخذتُه فمضغتُه ونفضْتُه وطيَّبتُه، ثم دفعتُه إليه، فاستنَّ به كأحسنِ ما رأيته استنَّ قطّ، ثم ذهب يرفعه إليَّ فسقطَت يدُه، فأخذتُ أدعو له بدعاءٍ كان يدعو به له جبريل، وكان هو يدعو به إذا مرِض، فلم يدعُ به في مرضِه ذاك، فرفَعَ بصره إلى السماء وقال: ((في الرفيق الأعلى))، وفاضَت نفسه ، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقِه في آخر يومٍ من الدنيا. أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صحيح.
وإنها لمناقِبُ وفضائلُ ما أعظمها! وما أكرمَها! وإنها لخليقةٌ بإشاعتِها جديرةٌ بإذاعتها بين الناس أجمعين؛ قيامًا بحقّ أم المؤمنين رضي الله عنها، وحبًّا ونُصرةً لها، ودفعًا للبُهتان عنها، وحَذَرًا من إيذاء رسول الله فيها، فقد توعَّد سبحانه من اقترف هذا الإثم المبين، فقال عزَّ من قائل: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
|