أما بعد: معاشر المؤمنين، وحدة الأمة مقصد هام من مقاصد الدين، وغاية سامية من غايات الشريعة، فقد نهانا ربنا جلّ وعلا عن الفرقة والشقاق كما تفرق الذين من قبلنا فكان مآلهم للخزي والعذاب العظيم، قال سبحانه وتعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].
وإنما تتحقق الوحدة بالاعتصام بحبل الله تعالى وسنة رسول الله والتمسك بثوابت الدين وأركان العقيدة ومعالم الشريعة، كما أمر ربنا جلّ وعلا وقال: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ.
فتوحيد الله تعالى بألوهيته وربوبيته وبأسمائه وصفاته، لا يدعى إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يحتكم إلا إليه، ولا يقصد بالعبادة سواه؛ ركن الإيمان الركين وعموده القويم الذي ينبغي أن تتوحد الأمة عليه.
والإيمان بالقرآن العظيم أنه كتاب الله تعالى المنزل على محمد بن عبد الله المحفوظ بحفظ الله له لا تبديل فيه ولا تحريف، ولا نقص فيه ولا زيادة، ركن من أركان الدين وثابت من ثوابته ينبغي أن تلتقي الأمة على الإيمان به والخضوع لأحكامه واليقين بآياته.
واتباع سنة رسول الله وتوقيره وتصديقه وتحكيم سنته وشريعته ونصرة دعوته ورسالته ثابت من ثوابت الإسلام ومعلم من معالم الشريعة، لا تتم وحدة للأمة بدونها، ولا تلتقي إلا تحت رايتها، قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9].
وتوقير صحابة رسول الله ، والترضي عليهم، والإيمان بفضلهم، والقبول بما صح من نقلهم لسنة رسول الله ، وبأنهم خير القرون بشهادة الله تعالى لهم ورضاه عنهم، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100]، وشهادة رسول الله بخيريتهم حين قال : ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، وعلى الأخص الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة بوصية رسول الله وشهادته لهم بقوله : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)).
وتوقير زوجات النبي الطاهرات المطهرات بتزكية الله لهم، قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيِتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيرًا، فهنّ أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، قال سبحانه: النَّبِيُّ أَولَى بِالمُؤمِنِينَ مِن أَنفُسِهِم وَأَزوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم [الأحزاب: 6].
ومنهن الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر حبيبة رسول الله الطاهرة المطهرة المبرأة من الله جلّ وعلا بعد حديث الإفك الأول ولعن من اتهمها في عرضها، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 10].
عن عائشة رضيَ اللهُ عنها أنَّها ذُكِرَتْ عند رجلٍ فسبَّها، فقيل له: أليست أُمَّك؟! قال: ما هي بأمّ، فبَلَغَها ذلك فقالت: صَدَق، إنَّما أنا أمُّ المؤمنين، وأمَّا الكافرين فلستُ لهم بأمّ. رواه الإمامُ قِوَامُ السُّنَّةِ الأصبهانيُّ التَّيْمِيُّ في "الحُجَّة في بيانِ المَحَجَّة" (377) مِن طريقِ عُروة.
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ طِيبَ النَّفْسِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ الله لِي، قَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ وَمَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ)), فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ مِنَ الضَّحِكِ, فَقَالَ: ((أَيَسُرُّكِ دُعَائِي?)) فَقَالَتْ: وَمَا لِي لا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ?! فَقَالَ: ((وَاللهِ، إِنَّهَا لَدَعْوَتِي لأُمَّتِي فِي كُلِّ صَلاة)) أخرجه البزَّار في مسنده (2658 - كشف الأستار) وحَسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/324).
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أعظمك! وما أرحمك بأُمَّتِك! وصدق وصفك ربك ومولاك حين قال في حقك: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه القويم، وسنة نبيه الكريم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|