أمّا بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، والثباتِ على دينه، والعزيمةِ على الرشد، والغنيمةِ من كلِّ بِرٍّ، وإياكم والقصورَ والفتور؛ فإنهما يُهلِكان العبدَ ويُقعِدانه عن التزوُّد بمعالي الأمور، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].
أيّها المسلمون، الفرَصُ الثمينةُ ما لِفواتها عِوَض، وإنّ انتهازَها لدليلٌ جلِيٌّ على قوَّة الإرادة النابعة عن عزمٍ مُوفَّق، ومَن فرِح بالبطالة جَبُن عن العَمل، ولا يغُرنَّ المرء رغباتُه الصالحة مُجرَّدةً عن العمل، فإنه لن يستفيد منها إلا إذا انتهَز كلَّ فرصةٍ سانحةٍ له، وعمومُ الأعمال الصّالحة لا تُكلِّف المرءَ وقتًا طويلاً ما لم يشُقَّ على نفسه ويُرهِقها عُسْرًا.
ولذا -عباد الله- فإنّ الميدان سباق، والأوقات تُنتَهَب، وما فات ما فات إلا بالخلودِ إلى الكسَل، ولا نِيلَ خيرٌ إلا بالجِدِّ والعزم، وثمرةُ الأمرَيْن -عباد الله- أنّ تعبَ المُحصِّل للفضائل راحةٌ في المعنى، وراحة المُقصِّر في طلبها تعبٌ وشينٌ يُعاب عليه إن كان ثَمَّ فهمٌ وإدراك.
والدنيا كلُّها إنما تُراد لتُعبَر لا لتُعمَر، وسيُودَع كلُّ واحدٍ منَّا قبرَه ولمّا يقضِ لُبانتَه منها، ومِن ثَمَّ يأسف على فقدِ ما وُجودُه أنفعُ له في حين إنَّ تأسُّفَه ربما يكون نوعَ عقوبةٍ عاجلةٍ على تفريطه، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 56-58].
وما هذه الدّنيا -عبادَ الله- إلا كمائدةٍ شِبَعُها قصير وجوعُها طويل، ومَن سلك الطريق الواضح دون فتورٍ أو مللٍ ورَدَ الماءَ فنَهَلَ منه رِيًّا، ومَن خالفَ فقد وقع في التيه ولاتَ ساعة ارتواء.
أيّها المسلمون، إنّ شهرَ رمضان قد انصرَم وانمَحَق، وتفرَّق نظامُه بعد أن كانَ اتَّسَق، وانطوَت صحيفةُ ذلك السوق بعد عَرضٍ وطلب، وبيعٍ وشراء، وربحٍ وخسارة، وغبنٍ وغِبطة، وصارت أحوال الناس في رمضانَ وبعد رمضان ثلاثةَ أضرب:
فضَربٌ من الناسِ ظنُّوا أنَّ الله لا يُعبَد إلا في رمضَان، ولا يُطاع إلا في رَمضان، ولا محارمَ له إلا في رمَضان، فبئسَ القوم هؤلاء الذين لا يعرِفون الله إلا في رمضانَ، وبئس القومُ هم إذ لم يربحوا من صومِهم إلا الجوع والعطشَ، ولا من صلاتهم إلا التعَب والسهَر، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 23].
وضَربٌ آخر منَ الناسِ حمَّلوا أنفسَهم ما لا تُطيق، فأثقَلوا عليها في العبادةِ فوق ما أرادَه الله لهم، وراغَموهَا دونَ تلطُّف، وإنَّ ممّا لا شكَّ فيه أنّ الرواحل إذا قطَعَت مرحلَتين في مرحلةٍ واحدَة فهي خَليقةٌ بأن تَقِف، والطريق الشاقُّ ينبَغي أن يُقطَع بألطفِ ممكِن؛ ولذا فإنّ أخذَ الراحة للجدِّ جِدٌّ، وغوص البحَّار في طلبِ الدُّرِّ صعودٌ له، ومن أراد البيِّنةَ على ذلك فليستمِع إلى قول النبي : ((إن هذا الدّين متين، فأوغِلوا فيه بِرِفق؛ فإن المُنبَتّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى)) رواه أحمد، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تُطيقون، فإنَّ الله لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا، وإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دامَ وإن قلَّ)).
أمّا الضَّربُ الثالثُ -عبادَ الله- فهم أولئك المؤمنون المُلهَمون، الخائفون الرّاجُون، الراغبون الراهبون، الّذين توسَّطوا يومَ تبايَن آخرون، واعتدَلوا يوم شذَّ مغرورون، بواطنُهم كظواهِرهم، رجالٌ مؤمِنون ونِساءٌ مؤمنات من عُبَّاد ربِّ الشهور كلِّها، فهم يعبدُون الله في كلِّ حين، ويعلمون أنَّ الله اختصَّ رمضانَ بزيادةِ فضلٍ وعملٍ لا يُلغِي عملَ الشهور كلِّها، ولا يستهينُ بالعمَل في غيرِه، يعلمون أنَّ رسولَ الله جَوادٌ في كلّ حِينِه، وإنما يزداد جُوده في رمضان؛ ولأجل هذا -عباد الله- فإنَّ هناك عباداتٍ هي مِن الثوابت التي لا تتغيَّر بعد رمضان؛ كالصلاة والزكاة والحجّ وصوم النوافل والصدقة والدعاء وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر وغير ذلكم كثير، ناهيكم -عباد الله- عن ثابت التوبة الذي لا يتغيَّر، بل هو مطلوبٌ في كل حينٍ وآن، كما قال جلَّ وعلا: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31]، وقد كان النبي يتأوَّلها بقوله: ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائةَ مرة)).
ألا فاعلموا -عباد الله- أنكم قد علِمتم ما سمعتم، ولقد أحسَن من انتهى إلى ما سمِع أو علِم، ولقد ذُقتُم طعمَ العبادةِ في رمضان ولذَّةَ القُرب من الله، فلا تُعكِّروا هذا الصَّفوَ بالكَدَر، والهناءَ بالشقاء، والقُرب بالبُعْد، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [النحل: 92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
|