.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الشـذوذ في الفتوى: الأسباب والأبعاد

6245

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل

بريدة

جامع العودة

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية الاجتماع والائتلاف. 2- ظاهرة ضعف التأصيل العلمي. 3- مفاسد هذه الظاهرة. 4- دواعي ضعف التأصيل العلمي. 5- انتهاك حرم الفتوى. 6- انتشار الفتاوى الشاذة. 7- أسباب الشذوذ في الفتوى. 8- قدم الشذوذ في الفتوى. 9- التحذير من تتبع الرخص.

الخطبة الأولى

أما بعد: عباد الله، ثمة غاية عظيمة من غايات الإسلام الكبرى، جاءت بها نصوص الكتاب في آيات بينات كثيرة، وجاءت بها سنة النبي الكريم في أحاديث عديدة، وتوارد علماء الإسلام سلفًا وخلفًا على تأكيد هذه الغاية، وبيان ضرورتها في حياة المسلمين، وشؤم تركها الذي يُخلفُ مِنْ ورائه فرقة وتنازعًا وشقاقًا.

غاية مسلَّمة لا شية فيها عند أولي الرجاحة، ممن تعمق لديهم أن صلاح دينهم ودنياهم واستقامة نفوسهم وحياتهم منبعث من هذه الغاية الكبرى التي أبان عن وجهها القرآن الكريم في قول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وفي قوله سبحانه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وفي قوله سبحانه: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وفي قوله: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

إنها الجماعة والاجتماع، اللذان ينفيان دَغَل النفوس، ويكشفان عَوَرَها وعَوارَها، وقد علق الله عليهما تأييده ومعيته، كما في سنن الترمذي (2166) من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)) قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وهو في صحيح الجامع (3621).

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّرًا  وإذا افترقن تكسرت أفرادًا

أيها المسلمون، من عزائم ما ينتظمه الاجتماع وينتظمه حبل الجماعة الاجتماع على آراء العلماء الراسخين، بعيدًا عن شواذ الأقوال وغرائب الفتاوى، لأن ثمة ظاهرة أطلت في سماء الفتوى يصدق أن تكون سببًا رئيسًا ومخاضًا لولادة الشذوذ والإغراب في الفتوى، إنها: (ظاهرة ضعف التأصيل العلمي).

ظاهرة قد برزت في هذه الأعصر، وأصبحت مظاهر امتدادها لا تخفى على المطالع في أكوام من الفتاوى الشاذة الغريبة، مع فهم بارد غث لكلام أهل العلم وسلف الأمة.

كما نتج عن هذه الظاهرة قلة الأدب مع أهل العلم، والتعجّل في الفتوى، ومصادرة قول الجماعة، والفهم المعوج، والتذبذب في الأقوال، والتناقض في الأفعال.

أيضًا من عظائم نتائجها أن روادها أصبحوا كالورقة في الريح الهادرة، تتقاذفهم الأهواء، وتتجاذبهم الآراء، وينفخ في روعهم الإعلام.

شاهدنا كثيرًا تلازمًا غالبًا بين قلة التأصيل وضعف التحصيل، وبين التعالم، والتعجل في الفتوى، والغرور، الذي لا يدع صاحبه حتى يقذفه في برجٍ عاجيٍّ، لا يرى إلا أن قوله الحق الذي ليس بعده إلا الباطل، في لهث عجيب على الفتوى في المسائل الكبار التي لو كانت في عهد عمر لجمع لها أهل بدر.

ولعل من أهم دواعي هذا الضعف العلمي العام وضعف التأصيل خاصة فقدان السنة المباركة في التلقي، وهي تلقي العلم في حِلَقِه وما يتبعها من مُشَامَّة الشيخ ومشافهته، ومجالسة أهل العلم، التي تصنع في النفس الصبر وطول النفس، ومِنْ ثَمَّ العمق والعقل والتأني، وكما قيل: "مفاتيح العلم أربعة: عقل رجاح، وشيخ فتاح، وكتب صحاح، ومداومة وإلحاح". قال الإمام الذهبي -رحمه الله- يشكو هذه الظاهرة في زمانه: "وأما اليوم، فقد اتسع الخرق، وقل تحصيل العلم من أفواه الرجال، بل ومن الكتب غير المغلوطة، وبعض النَّقَلة للمسائل قد لا يحسن أن يتهجى".

إن فقدان هذه السنة أو ضَعْفها هو الانطلاقة الأولى للزلات والشذوذات التي تَلْقى رواجًا عند كثير من الناس، وبالأحرى إذا وردت موافقة لشهواتهم ورغباتهم.

وهذا سر رواج كثير من الفتاوى الشاذة في السنين الأخيرة، مع مخالفة أكثرها للنصوص الصحيحة الصريحة ودلالاتها التي وقع الإجماع عليها.

وبهذه الفتاوى الشاذة، التي يروج لها البعض يُشغل العلماء، وتُهدر طاقات كثير منهم، وتُستنزف أوقاتهم ويُشغلون عمّا هو أهم، فضلًا عن الفوضى الفكرية والاضطراب والبلبلة التي يصطلي بنارها العوام، وتهتز من جرائها ثوابت عاشوا ردحًا من الأزمان عليها؛ لذلك حرص العلماء -أعلى الله منارهم- على بيان خطأ من أخطأ حتى لا يروج خطؤه بين المسلمين.

أيها الإخوة، من مفارقات هذا الباب وعجائبه أن الفتوى أصبحت كلأً مباحًا لكل منهوم ومحروم، وصار أصحاب القنوات الفضائية والصحف اليومية والأسبوعية يلّمعون هؤلاء، ويقدمونهم للناس على أنهم أصحاب علم وأعلام هدى، وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه الله، فقال له رجل: ما يبكيك؟! فقال: استُفتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعضُ مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السرَّاق. قال ابن القيم معلقًا: "قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة وآثار السلف نصيب".

قلت: فكيف لو شاهد ابن القيم متعالمي زماننا ماذا سيقول؟! وقديمًا قيل: "إذا كثر الملاحون غرقت السفينة"، وهي كلمة قديمة قالها أحد أئمة الإسلام يشكو فيها حفنة عفنة كدودة لزجة، متلبدة أسرابها في سماء غيرها، تقحموا فيما لم يحسنوا، ومن أقحم نفسه فيما لا يحسن أتى بالعجائب.

خاضوا غمار البحار من غير مهارة ولا دربة في الغوص، فانكشفوا وفضحتهم الأيام.

وكل من يدعي ما ليس فيه      فضحته شواهد الامتحان

قد يجيش العامي بهذه الفتاوى فرحًا، ويضرب بيمينه على شماله طربًا؛ لأنه يجد لأقاويلهم بُرْقة وجِدَّة، بينما أهل العقل العارفون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حزنًا وأسفًا لانفتاح قفل الفتنة، إنها فتنة لكل مفتون، وسبيل محنة، يمتحن الله بها الصف، لينزاح عن الاصطفاف فيه من أصيب بداء، أو من كان في قلبه دسيسة، ومن قبل اشتكى ابن القيم رحمه الله امتحانه بهؤلاء فقال:

هــــذا وإني بعــــــد ممتحــــن بــــــــــأر    بعــــــة وكلهــــــم ذوو أضـــــــغـــان

فــــــظ غليــــظ جـــــاهـــل متمعلــم     ضخم العمامة واسع الأردان

متـــفيـــهق متضلــــع بالجهــــل ذو    صلع وذو جلح من العرفـــان

مزجى البضاعة في العلـــوم وإنه  زاج مــــن الإيهــــــام والهذيـــــــان

يشكـــو إلى الله الحقــوق تظلما    من جهلـــــه كشكـــاية الأبدان

من جاهل متطبب يفتي الورى   ويحيل ذاك على قضا الرحمن

إن من محن هذا الزمان تصدُّرَ أقوامٍ للإفتاءِ، ليس لهم في مَقام الفتوَى حظٌّ ولا نصيب. غرَّهم سؤالُ من لا علمَ عنده لهم ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم. والفتوى منزلة علية لا ينالها إلا من تحققت فيه الشروط المقررة عند أهل العلم.

أيها الأحبة في الله، ثاني أسباب الشذوذ في الفتوى: التعالم وحب الصدارة والتصدر في الفتوى، وكم رأينا نَزَّالًا ينزل في حلائب العلم، ويروم مقاماته الشامخة من غير شموخ ولا نضج، ونفس الإنسان الطموح تتوق إلى هذه المنازل، ولكن الموفق يقهر ذلك بالمجاهدة وهضم النفس وكبح الجماح، ولو أن المرءَ أسلم الزناد للنفس لأسلمته للسقوط والهلكة.

إنَّ من الافتراءِ على الله تعالى والكذِب على شريعتِه وعبادِه ما يفعَله بعضُ المتعالمين من التسرّع في الفُتْيا بغير علم، والقول على الله تعالى بلا حُجّة، والإفتاء بالتشهّي والتلفيق، والأخذِ بالرّخَص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبّع الأقوال الشاذّة المستنِدة إلى أدلّة منسوخةٍ أو ضعيفة.

إن التعالم الخداع هو عتبة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم المحرمة تحريمًا أبديًّا في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وعلى وجه أخص حينما تختلط الأوراق ويشيع الجهل، وفي حديث عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ)) متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ)) متفق عليه.

إنّ سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أعظم الناس ورعًا، وأقلّهم في الدين كلامًا، ربّما سئل أحدهم سؤالًا فيحيله على أخيه، وأخوه يحيل على غيره، وهكذا لا يزال السائل ينتقل من واحد إلى آخر حتى يرجع السؤال إلى الأول. يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت بهذا المسجد -يعني مسجد رسول الله - عشرين ومائة من أصحاب رسول الله كلهم يُسأَل عن المسألة فيقول: لا أدري. رواه ابن سعد. وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر الشريف يقول: (أيُّ سماء تظلّني وأيّ أرضٍ تقِلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!) رواه ابن أبي شيبة. وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (وأبردها على الكبد) قيل: ما هي؟ قال: (لا أدري) رواه الدارمي. وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول: (العلم ثلاثة: آيةٌ مُحكمة، وسنة ماضية، ولا أدري). جعل "لا أدري" ثلث العلم، وجعلها غيره نصف العلم، وهكذا حتى أثمرت هذه الشجرة ثمارًا مباركة فقعَّدت للدين قواعده، وثبّتت أصوله، ومهّدت فروعه.

وما زال هذا العلم الشريف وهذا المنهج الرائد يحمله من كل خلفٍ عُدولُه، حتى نبتت في زماننا هذا نابتة لها ضجيج بين الناس، يكتبون كلامًا ويلقونَه، إنْ أحسنّا الظن بهم قلنا: هم على جهلٍ عظيم، وإنْ حكمنا عليهم بما ظهر لنا منهم قلنا: قلوبهم تنطوي على دخن.

وتتأزم الفتنة بهم حين يكون أحدهم عليم اللسان، يُجادِلُ بالقرآن ويسرد على كلامه أدلّةً، ويسوق براهين يحسبها الناس براهين للوهلة الأولى، ولكنها في حقيقة الأمر غُوْلُ العلم، أي: الهلكة والداهية.

وكم من فقيه خابط في ضلالة   وحجته فيها الكتاب المنزل

يلبَسون مسوح العلم، وكأنهم أهله المدافعون عن بيضته، الذائدون عن حماه، الناطقون بكلمته، وهم في حقيقة أمرهم يهدمون صروح الدين، قال عمر رضي الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) رواه ابن عبد البر. وقال أبو الدرداء: (إن مما أخشى عليكم: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن) رواه ابن عبد البر. وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم: (وإياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورًا)، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟! قال: (هي كلمة تَرُوعُكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟! فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإنّ العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما) رواه عبد الرزاق وأبو داود مختصرا.

وفي مثل هذا المعترك الساخن الذي تكثر فيه الزيغات يجب على أهل العلم والرسوخ تجلية الحقائق واستبانة سبيل الحق وبيان خطأ من أخطأ، فالحق أعلى وأغلى من الرجال. قال رجل للإمام أحمد: إن ابن المبارك قال كذا، فقال الإمام أحمد: إن ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقال الإمام القرطبي وقد ذكر الخلاف في حكم شرب النبيذ: "فإن قيل: فقد أحلّ شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه ... -قال معلقًا:- هذه زلة من عالم، وقد حُذِّرْنَا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة".

وما عكّر صفو الساحة في هذه الأيام إلا المجاملة، نغضّ الطرف، ونسكت مرة بعد مرة، حتى يُطلّ الباطل برأسه، ويَنشرُ على الناس رواقه، ويتبعُ المبطلَ فئامٌ مِن الناس ممن اغتروا بزخرف القول؛ ولهذا كان من الوظائف الشريفة للأَجِلَّة مُقَارَضَة إعلان هؤلاء بالشذوذات بالإجهار الشجاع بالحق؛ لأن سكوت الأكابر يزيد من تَنَمُّر الأصاغر، ومن ثَمَّ الامتداد الفج في صناعة منهج للشذوذ العلمي، سيكون له رموزه وأتباعه، ولربما تكون له الحماية والرعاية الكاملة، وهنا مَكْمَن الفتنة للناس الذين قد تخفى عليهم بدهيات العلم، وقد وجدنا مع الأيام أن هؤلاء لا يتورعون عن الفتيا بشيء مهما عظم، بل هم إلى القضايا الكبرى أسرع منهم إلى غيرها.

ولا يَجْمُلُ العلم بالعالم إلا إذا لزم نصوص الشريعة وحمى حماها وناهض لأجلها، مجتنبًا الغرائب من الأقوال والشذوذات من الفتاوى، وما لا يُحسن الناسُ فهمَه، أو ما يسبب رقة في الدين، أو فحشًا في السلوك؛ ولذا لا يتصور صدور مثل تلك الفتاوى المفسدة لدين الناس من مفتٍ يعلم ما وصلت إليه أحوال الناس من البُعد عن الشرع.

أيها الأحبة، ثالث أسباب الشذوذ في الفتوى: وازع الهوى الخفي الذي قد لا يتبصره المفتي ولا يعلمه؛ لأن للهوى خيطًا دقيقًا في النفوس يَحْكمها ويَسْري في أعماقها حتى تظن حسنًا ما ليس بالحسن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وللشريعة أسرار في سدِّ الفساد وحَسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما خفي على النفوس من خفي هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع وقال في بعض المحرمات: إنما حرمها لعلة كذا، وهي مفقودة هنا، فاستباح ذلك بهذا التأويل، فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربِّه"، وقال رحمه الله: "وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانّة أنها تفعله طاعة لله".

نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، ويردّ ضالّهم إليه ردًا جميلًا، والحمد لله رب العالمين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله علام الغيوب غفّار الذنوب، يفرِّج الكروب ويهدي القلوب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، خيرتُه من خلقِه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أيها المسلمون، الشذوذ في الفتوى ليس جديدًا، بل هو قديم قدم الأيام، ولكنه في هذا الزمن يلقى رواجًا عريضًا من شرائح المسلمين بفعل الإعلام الذي يحتفي فيه بعض سدنته بالشذوذ لطي صفحة الحق ومد ظل الباطل وضلاله.

وقد كان الخليفة المسدد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدرك ما تُحدثه الفتاوى المختلفة بين الناس، وكان موقفه منها صارمًا، وأصرم منه موقفه فيمن يأتي بالشاذ من الأقوال. روى ابن أبي شيبة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اخْتَلَفَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ أُبَيٌّ: ثَوْبٌ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: ثَوْبَانِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا عُمَرُ فَلاَمَهُمَا، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَسُوؤُنِي أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَعَنْ أَيِّ فُتْيَاكُمَا يَصْدُر النَّاسُ؟ أَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَأْلُ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ أُبَيٌّ. رواه ابن أبي شيبة وصححه الألباني. وروى مالك في الموطأ (783) عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِهِ قَوْمٌ مُحْرِمُونَ بِالرَّبَذَةِ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ.

فكم يا تُرى من يستحق أن يُوجع بسبب فتوى شاذة نسبها لشرع الله تعالى المطهَّر! وكم هم الذين يستحقون التأديب بسبب فتوى أحدثت شرخًا وصخبًا وتهريجًا!

وليس كل قول قاله عالم أو متعالم صحيحًا، وليس كل ما قاله فقيه حقًا، إلا قولًا له حظٌ من الأثر أو النظر، وقديمًا قال الإمام مالك يرحمه الله: "كلٌ يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر" وأشار إلى قبر المصطفى .

وإذا كثرت الأقوال الشاذة من شخص فإنه ينبغي أن يُحَذَّر منه لئلا يغتر به العامة, من غير استرسال في الطعن بذاته, وينبغي الترفع عن القول المُسِف في شخصه أو الطعن في ذاته أو نسبه، فليس هذا سبيل أهل الرشد في هذه المواطن، بل سبيلهم بيان الخلل وكشف الزلل في القول دون الولوج في ذوات الأشخاص والإقذاع في العبارات، مع التأكيد الشديد على زجر من اختار هذه الأقوال الشاذة واعتمدها، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها.

وتتبع الرخص والجري وراءها يعتبر هروبًا من التكاليف، وتخلصًا من الواجبات، وهدمًا لعزائم الأوامر والنواهي، وتوهينًا لمسير العبد في مدارج العبودية ومنازل التأله والتذلل في مقام الألوهية وهضمًا لحقوق عباده، وهو يتعارض مع مقاصد الشريعة من الحث على التخفيف عمومًا وعلى الترخيص بصفة خاصة، كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وكقوله : ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ)) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان.

وقد اعتبر العلماء هذا العمل فسقًا، وحكى ابن حزم الإجماع عليه. قال ابن عباس: (ويل للأتباع من زلة العالم) رواه البيهقي في المدخل. وقال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله" رواه ابن عبد البر. وقال الإمام أحمد: "لو أن رجلًا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا"، وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" رواه البيهقي في السنن. وروى الخطيب بسنده عن إبراهيم بن أدهم، قال: "إذا حملت شاذ العلماء حملت شرًا كثيرًا".

وقال ابن حزم -رحمه الله تعالى- في كلامه على أنواع الاختلاف: "وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من كل قول عالم مقلدين له، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى، وعن رسول "، ويقول الذهبي رحمه الله: "من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رق دينه"، وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة واعتمدها في نقله وفتواه فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها... وما أحسن ما قيل:

والعلم ليس بنافع أربـــابه        ما لم يفد نظرًا وحسن تبصر".

روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) متفق عليه، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لَيْسَ عَام إِلَّا والَّذِي بَعْده شَرّ مِنْهُ، لَا أَقُول: عَام أمطرُ مِنْ عَام، ولَا عَام أَخْصَب مِنْ عَام، وَلَا أَمِير خَيْرٌ مِنْ أَمِير، وَلَكِنْ ذَهَابُ علمائكم وخياركم، ثُمَّ يَحْدُث قَوْم يَقِيسُونَ الْأُمُور بِآرَائِهِمْ، فَيُهْدَم الْإِسْلَام ويُثلم) رواه الدارمي (188). قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "لا آفة على العلوم وأهلها أضرّ من الدخلاء فيها؛ وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون"، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إذا تلكم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب"، وقال بعض المصنفين: "والانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع والقول بما لم يقل به أحد فيه ينبئان عن خلل في العقل".

قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله : ((سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ))، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: ((الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)) رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم وفي إسناده ضعف وهو في السلسلة الصحيحة (1887).

أليس هذا زمان الرويبضة؟! بلى والله، إن هذا زمانه، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرويبضة، كما أخبرنا بذلك رسولنا عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أعذنا اللهم من فتنة القول، وفتنة التعالم والقول عليك بغير علم. اللهم من وقع في هذه الفتنة من المسلمين فرده إليك ردًا جميلًا، وافتح على قلبه وبصره بالحق، واكفه شر نفسه وشر الشيطان وأعوان الباطل...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً