أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الله رَبَّكُمْ وَعَظِّمُوهُ، تَأَمَّلُوا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَعَانِيَهَا الْعَظِيمَةَ، وَتَفَكَّرُوا في أَفْعَالِهِ الْحَكِيمَةِ، وَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنُ حِينَ تَّقْرَؤونَ تَفَاصِيلَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحْيي الْقُلُوبَ وَيَزِيدُهَا عُبُودِيَّةً لله تَعَالَى وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 14]، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الْفُرْقَانَ: 2]، صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [الْنَّمْلِ: 88]، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [الْسَّجْدَةِ: 7]، مَا تَرَىَ في خَلْقِ الْرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الْمَلِكُ: 3].
أَيُّهَا الْنَّاسُ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدٌ لله تَعَالَى، لَا قِيَامَ لَهُمْ إِلَّا بِأَمْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَلَقَهُمْ وَدَبَّرَهُمْ؛ فَفِي أَرْضِهِ يَمْشُونَ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ يَعِيشُونَ، وَبِأَمْرِهِ يَسِيرُونَ، وَفِي سُلْطَانِهِ يَتَحَرَّكُونَ، وَمِنْ رِزْقِهِ يَأْكُلُونَ، لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
إِنْ اسْتَبْطَؤوا رِزْقَهُ ضَجرُوا وَيْئسُوا، وَإِنْ قَطَعَهُ عَنْهُمْ هَلَكُوا وَبَادُوا، وَإِنْ رَأَوْا بَوَادِرَهُ فَرِحُوا وَطَمِعُوا، فَهُمْ بَيْنَ الْطَّمَعِ وَالْخَوْفِ يَتَقَلَّبُونَ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ الْسَّحَابَ الْثِّقَالَ [الْرَّعْدُ: 12]. وَإِذَا كَانَ الْغَيْثُ وبَوَادِرُهُ وَمَا يُصَاحِبُهُ وَمَا يَنْتُجُ عَنْهُ آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الله تَعَالَى فَإِنَّ خَوْفَ الْبَشَرِ مِنْهُ، وَطَمَعَهُمْ فِيهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَجُزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، يَطْلُبُونَ رِزْق الله تَعَالَى، فَإِذَا رَأَوْا بَوَادِرَهُ خَافُوَا، فَمَا أَقَلَّ حِيلَتَهُمْ! وَمَا أَشَدَّ ضَعْفَهُمْ! تِلْكَ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ فِيهِمْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَىَ أَنَّهَا مِنْ آيَاتِ الله تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [الْرُومُ: 24]. فَيَا لله الْعَظِيمِ، مَا أَشَدَّ عَجَزْنَا! وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى رَبِّنَا! وَقَلِيلٌ مِنَّا شَكُورٌ.
إِنَّ الْبَشَرَ يَفْرَحُونَ بِالْسَّحَابِ الْثِّقَالِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِبَرْقِهِ وَرَعْدِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَخَافُونَهُ، وَيَعِيشُونَ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ بَيْنَ الْطَّمَعِ وَالْخَوْفِ، فَلِمْ يَخَافُونَ؟! وَمِمَّ يَخَافُونَ؟!
إِنَّهُمْ يَخَافُونَ مَظْهَرَ الْكَوْنِ وَقَدْ تَغَيَّرَ، فَحَجَبَتْ جِبَالُ الْمُزْنِ عَيْنَ الْشَّمْسِ، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، وَهَزَّ الْرَّعْدُ بِصَوْتِهِ أَرْجَاءَ الْكَوْنِ يُسَبِّحُ الله تَعَالَى، وَأَضَاءَ الْبَرْقُ يَكَادُ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ، فَتَسْرِي في الْقُلُوبِ مَسَارِبُ مِنَ الْخَوْفِ يَكْتُمُهَا الْنَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَتَجَلَّدُونَ مُظْهِرِينَ فَرَحَهُمْ، وَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَةُ الكَوْنِ، وَقَوِيَ صَوْتُ الْرَّعْدِ، وَتَتَابَعَ الْبَرْقُ، وَحرّكَتِ الرِّيَحُ كُلَّ سَاكِنٍ؛ ازْدَادَ الْخَوْفُ، وَوَجِلَ الْعِبَادُ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، بَرُهُمْ وَفَاجِرُهُمْ؛ ذَلِكَ أَنَّ تَغَيُّرَ أَحْوَالِ الْكَوْنِ وَاضْطِرَابَ نِظَامِهِ مِمَّا يَبْعَثُ الرَّهْبَةَ في الْقُلُوبِ، وَيُثِيرُ الْرُّعْبَ في الْنُّفُوسِ، لَكِنَّ خَوْفَ الْمُؤْمِنِينَ يَكُونُ مِنْ رَبِّهِمْ جَلَّ وَعَلَا وَمِنْ عُقُوبَتِهِ؛ جَرَّاءَ ذُنُوبِهِمْ، فَيَنْطِقُونَ مَعَ الْرَّعْدِ مُسَبِّحِينَ لله تَعَالَى وَمُعَظِّمِينَ.
عَجَبًا لِأَمْرِ الْبَشَرِ! يَخَافُونَ الْغَيْثَ وَهُمْ يَطْلُبُونَهُ، وَيَفْزَعُونَ مِنْهُ وَهُمْ يَسْتَسْقُونَ لِنُزُولِهِ. فَلِمَاذَا إِذَنْ يَسْتَسْقُونَ؟! وَمِمَّ يَخَافُونَ؟!
إِنَّهُمْ يَسْتَسْقُونَ لِبَقَاءِ حَيَاتِهِمْ؛ فَشَرَابُهُمْ وَطَعَامُهُمْ في غَيْثِ رَبِّهِمْ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ طَمَعُهُمْ فِيهِ، لَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ الْغَرَقَ، فَإِذَا تَتَابَعَ الْمَطَرُ تَأَذَّوْا مِنْهُ وَقَدْ يَغْرَقُونَ، وَالْمَطَرُ قَدْ يُلْحِقُ الْأَذَى بِالْنَّاسِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ [الْنِّسَاءِ: 102]، فَالبَشَرُ لَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْغَيْثِ لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَهُ بِمِقْدَارٍ، فَمَا أَضْعَفَ حِيلَتَهُمْ! وَمَا أَكْثَرَ اشْتِرَاطَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ!
إِنَّ الْبَشَرَ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْسَّابِقِينَ وَالْحَاضِرِينَ أُغْرِقُوا بِالْمَطَرِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَقْرَؤونَ قِصَصَ بَعْضِهِمْ في الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَيَخَافُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى في الْمُعَذَّبِينَ مَنْ الْسَّابِقِينَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [الْعَنْكَبُوتِ: 40].
وَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ أَوْصَافِ الْهَلَاكِ بِالْغَرَقِ فَلْيَقْرَأْ قِصَّةَ قَوْمِ نُوحٍ في سَوْرَتِي هُودٍ وَالْقَمَرِ؛ فَإِنَّ فِيهَا مَشَاهِدَ تَخْلَعُ الْقُلُوبَ، وَتَسْتَدِرُّ الْدُّمُوعَ، وَتَقُودُ إِلَى الْخَشْيَةِ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ الْسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [الْقَمَر: 12]. تَخَيَّلُوا حِينَ تُشْرِعُ الْسَّمَاءُ أَبْوَابَهَا لِيَنْهَمِرَ الْمَاءُ عَلَى الْنَّاسِ بِغَزَارَةٍ تَجْعَلُ الْأَرْضَ تَتَفَجَّرُ عُيُونًا مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، وَإِذَا مَا اسْتَمَرَّ ذَلِكَ تحَوَّلَ إِلَى طُوفَانٍ يُغْرِقُ الْمَدَرَ وَالْوَبَرَ، وَيَجْرُفُ مَا أَمَامَهُ، وَيَمْلَأُ الْأَوْدِيَةَ وَيُغَطِّي الْجِبَالَ.
تَأَمَّلُوا هَذَا الْوَصْفَ الَقُرْآنيَّ الْعَجِيبَ في قِصَّةِ غَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ في مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ في مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَّعَنَا وَلَا تَكُنْ مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ الله إِلَّا مَنْ رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هُودٍ: 42، 43]. وَحِينَ انْتَهَتْ مُهِمَّةُ الْمَطَرِ بِإِغْرَاقِ الْمُكَذِّبِينَ كَانَتْ أَوَامِرُ الْرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَىَ الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الْظَّالِمِينَ [هُودٍ: 44].
وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ آيَةً لَنَا نَعْتَبِرُ بِهَا كُلَّمَا تَلَوَّنَا آيَاتِ قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوُا الْرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلْنَّاسِ آيَةً [الْفُرْقَانَ: 37].
عَجَبًا لِلْبَشَرِ! يَطْلُبُونَ الْسُّقْيَا وَيَخَافُونَ الْغَرَقَ. عَجَبًا لَهُمْ حِينَ يَرَوْنَ الْسُّحُبَ فَيَطْمَعُونَ وَّيَخَافُونَ! عَجَبا لِأَمْرِهِمْ حِينَ يَسْتَسْقُونَ عِنْدَ الْجَدْبِ ثُمَّ يَسْتَصْحُونَ عِنْدَ الْغَرَقِ! يَتَبَاشَرُونَ بِالْغَيْثِ في مُقَدِّمَاتِهِ، ثُمَّ لَرُبَّمَا عَزَّى بَعْضُهُمْ بَعْضًا في نِهَايَاتِهِ. هَذَا الْضَّعْفُ كُلُّهُ فِيهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى إِلَّا قَلِيلًا، وَيَكْفُرُونَهُ كَثِيرًا.
وَفِي الْعَهْدِ الْنَّبَوِيِّ وَقَعَ ذَلِكَ فَعَجِبَ الْنَّبِيُّ مِنْ ضَعْفِ الْنَّاسِ وسَأَمِهِمْ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِمْ وَدَعَا لَهُمْ؛ كَمَا رَوَى أَّنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَتِ الْنَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ الْنَّبِيِّ ، فَبَيْنَا الْنَّبِيُّ يَخْطُبُ في يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى في الْسَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّىَ ثَارَ الْسَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّىَ رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَىَ لِحْيَتِهِ ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ وَمِنْ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ وَغَرِقَ الْمَالُ فَادْعُ اللهَ لَنَا، وَفِي رِوَايَةٍ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَدْ غَرِقْنَا، -بِالْأَمْسِ يَطْلُبُونَهُ وَالْيَوْمَ يَصْرِفُونَهُ!- فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((الْلَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا))، فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْسَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ وَصَارَتْ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ -أَيْ: الْحُفْرَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْفُرْجَةُ في الْسَّحَابِ، أَيْ: صَارَ الْسَّحَابُ مُحِيطًا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ صَحْوٌ-، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ فَادْعُ اللهَ يَحْبِسْهُ، فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: ((حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا))، فَنَظَرْتُ إِلَى الْسَّحَابِ تَصَدَّعَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ كَأَنَّهُ إِكْلِيلٌ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاة شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ. رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ. فَمَا كَانَ بَيْنَ اسْتِسْقَائِهِمْ وَاسْتِصْحَائِهِمْ إِلَّا أُسْبُوع، فَكَيْفَ لَوْ مُطِرَ الْنَّاسُ شَهْرًا وَشَهْرَيْنِ أَوْ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ؟!
وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ عِدَّةٌ في وَصْفِ حَالِ الْنَّاسِ لمَا زَادَ الْمَطَرُ، أَسُوقُ بَعْضَهَا لَكُمْ، فَقَارِنُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا أَصَابَ بَعْضَنَا مِمَّنْ كَانُوا خَارِجَ مَنَازِلهِمْ في مَطَرِ الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ، فَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَمُطِرْنَا فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَخَرَجْنَا نَخُوضُ الْمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَا مَنَازِلَنَا، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَمَكَثْنَا حَتَّى رَأَيْتُ الْرَّجُلَ الْشَّدِيدَ تَهُمُّهُ نَفْسُهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: فَمَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ حَتَّى أَهَمَّ الْشَّاب الْقَرِيب الْدَّارِ الْرُّجُوع إِلَى أَهْلِهِ فَدَامَتْ جُمُعَةً، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الَّتِي تَلِيهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ وَاحْتَبَسَ الْرُّكْبَانُ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله لِسُرْعَةِ مَلَالَةِ ابْنِ آدَمَ، وَقَالَ بِيَدَيْهِ: ((الْلَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا))، فَتَكَشَّطَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ.
إِنَّهَا نَفْسُ الْأَعْرَاضِ الَّتِي أَصَابَتْ مَنْ كَانُوا خَارِجَ مَنَازِلِهِمْ، يُفَكِّرُونَ في الْرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَأَصَابَهُمْ الْذُّعْرُ وَالْمَلَلُ مِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالَى، فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا عَذَابَهُ؟! وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ ضَعْفُ بَنِي آدَمَ وَعَجْزُهُمْ، وَقِلَّةُ حِيلَتِهِمْ.
كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ في سَفَرٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَصَابَتْهُمْ الْسَّمَاءُ بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَظُلْمَةٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ حَتَّى فَزِعُوا لِذَلِكَ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا عُمَرُ؟! أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟! فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ فِيهَا شَدَائِدُ مَا تَرَىَ، فَكَيْفَ بِآثَارِ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ؟!
الْلَّهُمَّ فَارْحَمْ ضَعْفَنَا، وَاجْبُرْ كَسْرَنَا، وَتَجَاوَزْ عَنْ زَلَّاتِنَا، وَأَفِضْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَعَامِلْنَا بِعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ وِجُودِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الله لِي وَلَكُمْ...
|