أمّا بعد: فيا أيُّها المسلمون، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله جلّ وعلا؛ فبِها تحصُل السعادةُ ويتحقَّق الفلاحُ والنّجاة.
إخوَةَ الإسلام، يقول أهل العلم: تنحَصِر مَثاراتُ الذنوبِ في صفاتٍ منها أوصافٌ شيطانيّة، هذه الأوصافُ الشيطانيّة يتشعَّب منها الحسَد والبغيُ والحِيَل والخِداع والمَكر والغشّ والنِّفاق والأمرُ بالفساد ونحو ذلك.
ألا وإنَّ أعظمَ ما حارَبه الشرعُ المطهَّر الغشُّ بشتى أنواعِه ومختَلف صوَرِه وفي جميعِ الميادين وكافّةِ مجالاتِ الحياة، يقول جل وعلا: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1]، ويقول عزّ شأنه: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ [الشعراء: 183]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله مرَّ على صُبْرةِ طعامٍ فأدْخَل يدَه فيها، فنَالَتْ أصابعُه بلَلاً، فقَال: ((ما هَذا يا صَاحِبَ الطِّعَام؟!)) قال: أصَابتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله، قال: ((أفَلا جعلْتَهُ فوْقَ الطَّعامِ كي يرَاهُ النَّاس؟! مَنْ غشَّ فليْسَ منَّا)) رواه مسلم، وفي رواية: ((مَنْ غشَّنا فلَيسَ منَّا)).
عبادَ الله، الغشُّ طريقٌ موصِلٌ إلى سَخَط الجبّار جلّ وعلا، ووسيلةٌ إلى دخول النارِ، وسببٌ لحِرمان البركةِ في هذهِ الدّار، يقول : ((المؤمِنُ غِرٌّ كرِيم)) أي: سليمُ الصدر حسَن الباطنِ والظاهر، وفي تمام الحديث: ((والفَاجِرُ خِبٌّ لئِيم)) أي: ذو مكرٍ وغش وخداع. والحديث حسنٌ عند أهل العلم. وفي حديثٍ آخر: ((لا يدْخُلُ الجنَّةَ خِبٌّ ولا منَّانٌ ولا بخِيل)) رواه الترمذيّ وقال: "حسنٌ غريب"، وحسنه المنذري. والخبُّ هو الخدَّاع. وفي حديث آخر: ((المكرُ والخديعةُ في النَّار)) قال ابن حجر: "إسناده لا بأس به".
ومن منطلَق هذه النصوصِ العظيمة عدَّ أهلُ العلم الغشَّ بسائِر أنواعِه من الكبائرِ لنفيِ الإسلامِ عمّن فعله.
إخوةَ الإسلام، إنَّ المتأمّل في واقعِ بعضِ الناسِ اليومَ يجدَ تفنُّنًا في الغشّ وتحايلا في التمويهِ والتزويرِ والخِداع؛ مما لا يُرضي اللهَ جل وعلا، ومما يُخشى معه من عقوباتٍ نازلةٍ ومَثُلاتٍ واقعة.
فاتَّقوا الله عباد الله، واحذروا سخَطه وأليمَ عقابه.
معاشرَ المسلمين، الغشُّ يدخل في مجالاتٍ كثيرةٍ، منها الغشّ في النّصيحة، والغشّ مِن الحكّام للرعيّة، والغشّ في أمور الزواج والنكاح، ولكن أظهرُ صوَرِه وأكثرُها انتشارًا في مجتمَعات المسلمين الغشّ في المعاملات المالية.
فإنّ من الممارساتِ البعيدةِ عن شرع الله جل وعلا ما يحدثه بعضُ الناس بعض المتعامِلين في المعامَلات الماليّة بيعًا أو شراءً أو غيرهما من الغشِّ الذي قاعِدتُه إظهارُ ما ليس في باطن الأمر ممّا لو اطّلع عليه المتعامِل لا يرضى به ولا يبذل ماله فيه، وما يكون أيضًا من التصرّفات مبنيًّا على الكذِب وعدَم البيان بحقيقةِ الحال، وما يكون فيه كتمُ ما لا يحمَد في السّلَع بشتى أنواعها، كإخفاءِ العيوبِ أو إظهار ما ظاهِره الحُسن وباطنُه القبيح المستتر، وسواءٌ كان في ذاتِ السِّلعة أو عناصِرها أو وزنها أو صِفاتها أو مصدرها.
قال في كلامٍ عَظيمٍ عليه أنوارُ السنّة: ((البيِّعانِ بالخيَارِ مَا لم يتَفرَّقا، فإِنْ صدَقَا وبيَّنَا بُورِكَ لهمَا في بيْعِهِمَا، وإِنْ كتَمَا وكَذَبا مُحِقَتْ بركَةُ بيْعِهِمَا)) متفق عليه، وفي حديثٍ آخَر يقول المصطفى : ((لا يحِلُّ لامرِئٍ مسلِمٍ يبيِعُ سِلْعةً يعلَمُ أنَّ بها داءً إلا أخْبَر بِه)) قال الحافظ: "إسناده حسن"، ورواه البخاريّ تعليقًا مجزومًا به، ولكن موقوفٌ على عقبةَ بن عامر رضي الله عنه.
إخوةَ الإيمان، ومِن صور الغش ما يفعله بعض المتعامِلين في أيّ تعامُل ماليٍّ من الحَلف على مَدح معامَلته أو سِلعته وكونها حسَنةً وهو في باطِن الأمر كاذبٌ مخادِع، قال : ((ثلاثةٌ لا يكلِّمُهمُ الله يومَ القيامةِ ولا ينْظرُ إليهِم ولا يزكِّيهمْ ولهمْ عذابٌ أليم))، وذكر منهم: ((ورجلٌ حلَفَ علَى سلْعة: لقدْ أُعطِي بها أكثر مما أعْطيَ وهُوَ كاذِب)).
ومن صور الغشّ النَّجش، وهو الزيادة في ثمن السّلعة وهو لا يريد الشراءَ، وإنما يريد التغريرَ بالمشترين والحَاضرين للسّلعة ويريد نفع البائع، فقد نهى النبيّ عن النَّجْش، وقال: ((لا تَنَاجَشُوا)) متفق عليه، وقال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: (النَّاجشُ آكِلُ رِبا خَائِن) رواه البخاري.
ومن ذلك مَن يمدح سلعةَ غيره ويطلبها بالثّمن ثم لا يشتَري، وإنما يريد أن يُسمِع غيرَه ذلك الأمرَ حتى يزيد في الثمن.
إخوةَ الإسلام، ومن المجالات التي يقع فيها الغشّ ما يقع كثيرًا في المقاولاتِ المعماريّة، ومن ابتُلِي بالقضاء عرَف ذلك كثيرًا في واقع المسلمين، بحيث يهمِل المقاوِل في تنفيذِ العّقد ويخالِف في الشروطِ حالَ غفلةٍ من صاحِب الشأن أو عدَم معرفتِه بما يقَع معه ما لا يحمَد عُقباه من النتائج السيّئة والعواقب القبيحة، وسواءٌ كان ذلك مع الأفراد أو مع الدّوَل، فكلّ ذلك محرّمٌ في شريعة الله جل وعلا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|