أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى حقَّ تقواه، وسارِعوا إلى جنَّته ورِضاه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيُّها المسلِمون، إنَّ نبيَّنا محمَّدًا قال: ((إن اللهَ فرَض فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحدَّ حُدودًا فلا تعتَدوها، وحرَّم أشياءَ فلا تنتَهِكوها، وسكَت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيانٍ فلا تبحَثوا عنها)) من حديث أبي ثعلبةَ الخشنيّ رضي الله عنه، قال النوويّ رحمه الله: "حديثٌ حسَن رواه الدارقطني وغيره".
وإنّ مما فرض الله على عبادِه الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكر؛ لما في ذلك مِنَ المصالح العامّة والخاصّة الدينيّة والدنيويّة، ولما في ذلك من دَفع الشرورِ والمفاسِد ودَفع العقوبات والنوازِل، قال الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، وقال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110]، قال عمَر رضي الله عنه: (من أرادَ أن يكونَ من هذهِ الأمّةِ فليُوَفِّ شرطَ الله فيها)، وهو الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال تعالى في وصفِ المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].
وأثنى الله تعالى على مَنْ كانَ عاملًا بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ مِن أهلِ الكِتاب المتمسِّكين بشريعَتهم التي لم تُغَيَّرْ ولم تبدَّل، فقال تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 113، 114].
والمعروفُ: كلُّ ما أمَر به الإسلامُ وجوبًا أو استِحبابًا، ولا يأمُر القرآنُ والسنةُ إلا بما فيه الخَيرُ المحقَّقُ في الدَّارين، ولا يأمُر إلا بما جعَله الله سَببًا لدخولِ جنّات النّعيم.
والمنكر: هو كلُّ ما نهى عنه الإسلام تحريمًا أو كراهة، ولا ينهَى الإسلامُ إلا عن كلّ شرٍّ محقَّق في الدنيا والآخرة، ولا ينهَى إلا عمَّا يكون من أسباب دخول النار.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعَثَ عليكم عذابًا من عندِه، ثم لتَدعُنَّه فلا يستجيب لكم)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح". وقال تعالى في وصف المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة: 71]. وقال بعض أهل العلم: "إنّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر هو ركن من أركان الإسلام". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَنْ رأَى منكم منكرًا فليِّغيره بيده، فإن لم يستطع فبلِسانه، فإن لم يستطع فبقَلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))، ورُوِيَ أنَّ الرجل يتعلَّق بالرجل يوم القيامة، فيقول له: إليك عنّي فإني لم أظلمك في أهلٍ ولا مال ولا عِرض، فيقول: إنّك كنتَ تراني على المنكرِ ولم تنهني.
ولا بُدَّ لمن أمَر بمعروفِ أن يتحقَّق أنه معروف أمَر به الشرع، وأن يتحقَّق أن المنكرَ الذي ينهى عنه نهَى عنه الشرع؛ ليكونَ متِّبعًا للدليل على بصيرة، وينبَغي أن يكونَ الآمر والناهي ذا حِكمةٍ بطبعِه أو بالتعلّم، وأن يفقَه ما يأمر به وينهى عنه؛ لينزِّل الأدلةَ على مدلولاتها، ويسترشدَ بقول الله وقولِ رسولِ الله في الأمورِ وتقلُّبِ أحوالها، قال الله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125].
والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكَر حارسُ الفرائض والفضائل وقامِع الشرِّ والرذائل، وإذا وهى جانبه وكثُر مُجانِبه دخل على المجتمع كلُّ شرٍّ وباطل.
والتّغيير باليدِ هو للسلطان أو نائبِه، والإنكارُ باللسان بالحِكمة والترغيب والترهيب وحُسنِ الخلق لكلِّ من يعلم حُكمَ الله في المنكر، والإنكار بالقلب لكل أحد.
وكلٌّ من الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكرِ مقترنان معًا، لا ينفَصلان، فمن أحبَّ المعروف ولم يُبْغضِ المنكر فقد فرَّط في واجِب، ومن أمَر بمعروفٍ ولم يَنهَ عن مُنكر فقد ترَك واجبًا، ومن نهى عن مُنكر ولم يحبَّ المعروف فقد خالف هديَ محمّد . فلا بدَّ من الأمر بالمعروف ومحبّتِه، والنهيِ عن المنكر وبُغضه، وقد قال بعض السلف: من أمر بمعروفٍ ونهى عن منكر فليعرض نفسه على قول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة: 44]، وقولِه تعالى عن شعيب عليه السلام: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود: 88]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3].
والصبرُ واجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ لأنه سيتعرَّض للأذى كما هي سنّة الله بِذلك، قال تعالى عن لقمان: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [لقمان: 16، 17]؛ لأنه يتعرَّض لأهواء الناس، والهوى يتحكَّم على كثير من الناس.
والناهون عن المنكر لهم البشرى، وللآمرين كذلك بالمعروف لهم البشرى في عاجل الدّنيا وآجلِها، قال عز وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب: 70، 71].
وينجي الله الآمرَ بالمعروف والناهي عن المنكرِ من العقوبةِ على الذنوب مع ما له من الثواب العظيم، قال عزّ وجلّ: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود: 116]، وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165].
ويكفِّر الله تبارك وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكفر الله به الفتنةَ في المالِ وفي الأهلِ وفي الولَد، فقد سئِل حُذَيفةُ رضي الله تعالى عنه عن الفتن فقال: (إنَّ الصلاةَ والصيامَ والأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر يكفِّر الله بها تبارك وتعالى في ولَدِ الإنسان وفي ماله).
ووعد الله تعالى من أمَر بخيرٍ وحذَّر من شر، وعده جناتِ النعيم والنجاةَ من العذاب الأليم، فقال عز وجل: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112]، والبشرَى خيرٌ في الدارين، ومن هذه البشارة قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: 12].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيِّد المرسَلين وقوله القويم.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه.
|