كل منّا ينشد السعادة ويريد المتعة ويبحث عن راحة النفس وطمأنينة القلب واستعداد الفكر وهدوء البال والنعيم في الحياة الدنيا والآخرة. ليس منا إنسان لا يطلب هذه السعادة، والله تعالى هو خالقنا، وهو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يسعدنا، وهو اللطيف بعباده، الرحمن الرحيم، العفو الكريم، ذو الفضل العظيم، ومن أجل هذه الصفات وغيرها فإنّ الله تعالى خلقنا وبين لنا ما فيه سعادتنا، وأرشدنا إلى ما فيه استقرارنا وراحة نفوسنا واطمئنان قلوبنا، وأنزل القرآن هدى وبيّنات ورحمة وتبيانا لكل شيء، وأيّ إنسان يلجأ إلى هذا الكتاب فإنه سيجد فيه طلبته، وسيشعر أنه يشبع رغبته، وأنه يبين له أسباب سعادته.
لكن الله تعالى لم يكتف بالقرآن الكريم هدى وثباتًا ورحمة وسببَ سعادة، فإن البشر يقلّدون البشر ويأخذون التوضيح والمثَل من البشر، والإنسان بطبيعته يحبّ أن يرى المثل الذي يقتدي به والذي يرسم له الطريق، والله يعلم ذلك من عباده لأنه خالقهم، لذلكم أرسل الله إلى عباده نبيّا كريما ورسولا عظيما وإمامًا في كل شيء، قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]، وبين لنا سبحانه أن اتباع هذا النبيّ فيه سعادة الدنيا والآخرة؛ لأن هذا النبي أولا الله هو الذي اختاره واصطفاه وأحبه واجتباه وقربه إليه، وجعله أفضل الخلق على الإطلاق، فلا يوجد نبي مرسل ولا ملك مقرب هو أقرب إلى الله من الحبيب محمد .
ثم إنّ هذا الرسول رباه الله فأكمل تربيته، وأدبه وأكمل تأديبه، وزكى عقله وقلبه ولسانه، وقال فيه مقسما على قوله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4]، ولما قال عنه الأعداء من الكفار: إنه مجنون، دافع الله عنه وقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، ولما قالوا: إنه شاعر وإنه ساحر، رد عليهم سبحانه في ذلك كله وقال: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ [يس: 69]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا [الأحزاب: 75]، ولما تحداه الكفار من أجل أن يظهروا كذبه، كذبهم الله وبين ضعفهم وقال لهم: إنّ محمدا يقرأ كتابا من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن كان يكذب ويأتي بهذا القرآن من عند غير الله كما تزعمون فأتوا بسورة تماثل أصغر سورة من كتاب الله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38]، ولما قالوا له: إن كنت صادقا فاطلب من ربك أن ينشَق هذا القمر نصفين، فوعدهم في ليلة من الليالي المقمرة والتي كان القمر فيها ظاهرا، فنظروا فإذا القمر قد انشق نصفين: نصف فوق جبل أبي قيس ونصف مكانه في السماء، ونزل قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1].
ولما جاء أعرابي وقال له: من يشهد أنك رسول الله؟ فقال: ((هذه النخلة تشهد أني رسول الله))، فذهب الأعرابي وقال لها: أجيبي رسول الله، فمالت النخلة يمينا وشمالا حتى انقلعت، ثم جاءت تشق الأرض حتى قالت: السلام عليك يا رسول الله، ثم عادت إلى موضعها، فأسلم الإعرابي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله.
حتى الحَجَر عرف قيمته، يقول : ((إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)). ولما جاء الأعرابي وهو يخطب في يوم الجمعة فقال له: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه وما في السماء سحابة ودعا، يقول الراوي: والذي نفسي بيده، ما أنزل يديه حتى ثار السحاب مثل الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر ينزل ويقطر من لحيته، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى، فقام نفس الأعرابي فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء وغرق المال فادع الله لنا، فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وأقلعت السحب، وخرجنا نمشي في الشمس. هكذا كان الرسول ، أطاع الله فطوّع الله له كل شيء.
ويخرج ليقضي حاجته في الخلاء، فلما لم يجد شيئا يستتر به فإذا به يرى شجرتين بشاطئ الوادي، فينطلق إلى إحداهما ثم يأخذ بغصن من أغصانها ويقول: ((انقادي عليّ بإذن الله))، فتنقاد معه كالبعير الذي يستجيب لصاحبه، ويقول للأخرى نفس الشيء، حتى إذا اقتربتا من بعضهما قال لهما: ((التئما عليّ بإذن الله))، فالتأمتا، حتى إذا قضى حاجته رجعت كلّ شجرة كما كانت في السابق، وأحد الصحابة ينظر إلى هذا المنظر وهو يتعجب من قدرة الله وتكريمه لرسوله .
ولما دخل يومًا حائطا من حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتاه يجرجِر يصيح، وكأنه يشكو وقد ذرفت عيناه، فلما رآه على تلك الحالة حنّ عليه ومسح عليه بيده الشريفة، فسكن وهدأ، وقال: ((من صاحب الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال : ((أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكها الله لك؟! إنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدئبه وتتعبه)).
والمؤمنون من الصحابة رأوا من آيات الإعجاز منه الشيء الكثير، فقد رأوا الحصى وسمعوه وهو يسبّح في يدي الرسول ، وكذلك الطعام، بل ونبع الماء بين أصابعه الشريفة ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله في سفرٍ، فقلّ الماء، فقال: ((اطلبوا فضله من ماء))، فجاؤوا بإناءٍ فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: ((حيّ على الطهور المبارك، والبركة من الله))، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. رواه البخاري.
ولما عانى الصحابة من الجوع في غزوة الخندق ودعا جابر النبي وذبح ماعزا وطحن شعيرا، وجاء وصاح بأهل الخندق ودعاهم وكان عددهم أكثر من ألف، دعاهم إلى طعام جابر الذي أسقط في يده وأشفق من قلة الطعام، لكن النبي كان يبتسم وهو يطعم المسلمين من الطعام وهو كما هو لم ينقص منه شيء، قال جابر: أقسم بالله لقد أكلوا حتى شبعوا وإن طعامنا كما هو لم ينقص منه شيء أبدًا.
ولما انكسرت ساق أحد الصحابة قال له : ((ابسط رجلك))، قال: فبسطت رجلي فمسح عليهما فكأنما لم أشتكِ منها قبل ذلك وبرئت بإذن الله.
وأعجب من ذلك أنه كان يخطب على جذع نخلة، فأهدي له منبر جديد، فلما كان يوم الجمعة قعد على المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشقّ، فنزل حتى أخذها فضمّها إليه، فجعلت تئنّ أنين الصبيّ الذي يسكت حتى هدأت واستقرت، وكان الحسن إذا حدّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله شوقا إلى مكانه من الله، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إلى لقائه.
ومن ذلك الشيء الكثير، حتى إذا لم يعرف أهل الأرض مكانته ولم يدركوا قيمته جاءه جبريل وصعد به إلى السماوات العلى، وزفّ في السماء الأولى إلى الثانية إلى السابعة ليلة الإسراء والمعراج، حتى خاطبه ربه وفرض عليه الصلوات الخمس، ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى، وأنزل الملائكة تمشي معه وتمشي حوله حتى كان يقول لأصحابه: ((امشوا أمامي وخلّوا ظهري للملائكة)). وكان يقول: ((أنا أرى من خلفي كما أرى من أمامي)) عليه الصلاة والسلام، بل كانت الملائكة مرصودة له، ينزلها الله سبحانه وتعالى لنصرته في أي وقت، كما حصل ذلك عندما نزلت الملائكة في غزوة بدر وفي الخندق وفي حنين، وساعدت النبي كما ساعدت أصحابه، كل ذلك من أجل تكريم الله لهذا النبي محمد .
أخي المسلم، إنك إذا قرأت في القرآن الكريم تجد فيه أمورا أساسية وكليات لم تتعرض للتفاصيل، فالصلاة ذكرت في القرآن، والصيام ذكر في القرآن، والزكاة كذلك، وأشياء كبيرة ذكرت، لكنها ذكرت على سبيل الإجمال، فمن الإنسان الذي كلفه الله بتفصيل تلك الأمور وتبيينها؟ ومن الذي طبق التشريعات القرآنية أمام المسلمين ليعرفوها؟ من الإنسان الذي اختاره الله أمينا على الوحي، أمينا على الشرع، أمينا على الرسالة، رائدا للعالم كله، سيدا في الدنيا والآخرة؟ إنه الحبيب محمد.
فإذا ما درست سيرته وقرأت أحاديثه وجدت الجمال كله والكمال كله، ووجدت العزة والسيادة، ووجدت الرفعة والسعادة في كل كلمة ينطق بها الحبيب محمد ، وليت الذين يهتمون بتواريخ العظماء وتواريخ الكبراء والمشهورين وتواريخ رجال العالم وغيره، ليتهم يهتمون مثل هذا الاهتمام بتاريخ الحبيب محمد وتاريخ صحابته، ليتهم يدرسون أخلاقه كما يدرسون أخلاق الآخرين، ويدرسون أسباب عظمته كما يدرسون أسباب عظمة غيره، مع أنهم لم يصلوا حتى إلى مكانة التراب الذي مشى عليه الحبيب محمد .
نعم، نبيّ أميٌّ أتى إلى أمة أمية، في مدى ثلاث وعشرين سنة يقيم أمة، ويؤسس دولة، ويجهز جيشا، ويعمل اكتفاء ذاتيا، ويضع أصول القواعد، أصول قواعد الاقتصاد والسياسة والاجتماع والأحوال الشخصية والمواريث والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الدولية، وما ترك شيئا يحتاجه المسلم إلا وضع له أصولا، فهل عرفنا ذلك كله؟! وهل عرفنا قيمة نبينا حقيقة؟! وهل اتبعناه في كل ما يقول ويفعل؟! هل جعلناه أسوة لنا في حياتنا كلها؟!
إنه كزوج كان أرحم زوج وأعطفه، وإنه كأب كان أشفق أب وأرأفه، وإنه كقائد كان أعظم قائد وأحسنه سياسة وحنكة، وإنه كحاكم كان أعدل حاكم ظهر على وجه الأرض، وإنه كمربٍّ كان أفضل مربّ عرفه التاريخ، وإنه كعابد كان أفضل عابد فتحت له السماء والأرض والتفت الملائكة من حوله، إنه إنسان رباني بشريّ أفضل من الملائكة أجمعين كما قال ذلك كل العلماء.
هذا الحبيب محمد هو الذي يجب علينا أن نتبعه، هو رائدنا، وهو إمامنا، وهو قائدنا، هو الذي نستشيره في كل شيء، ونمسك كتاب الحديث في أيدينا لنعرف كيف كان يعاشر زوجاته، كيف كان يعامل خدمه، كيف كان يعامل جيرانه، كيف كان يربي أولاده، كيف كان يتعامل في بيعه وشرائه، كيف كان يعامل إخوانه، كيف كان يقود المسلمين، كيف كان يربي المؤمنين، إننا لو سألنا عن ذلك كله فإننا سنجد الجواب في كلماته المشعة المضيئة النيرة، في أحاديثه الشريفة كما قال ربنا سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2].
فأين نحن من ذلك؟! أين نحن من سيرته؟! أين نحن من أحاديثه؟! من منا قرأ سيرته ولو مرة واحدة في حياته؟! كم نعرف وكم نفهم وكم طبقنا من أحاديثه وأقواله ؟! كيف نقول: إننا نقتدي به ونحن لا نعرف عنه إلا القليل، بل إن منا من لا يوجد في بيته كتاب لا في السيرة ولا في الحديث، ويزعم بعد ذلك أنه يقتدي بالنبي ويتبع سنته؟! فهل يقبل هذا الادعاء من إنسان لا يملك من الثقافة والعلم بسنة النبي وسيرته حتى الحد الأدنى من العلم؟! لأنه إذا أردت أن تقتدي بالنبي فكيف ستقتدي به وأنت لا تعلم عنه شيئا ولا تعلم إلا القليل؟! كيف يستقيم ذلك؟!
|