أمّا بعد: فيا أيُّها المسلِمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله جلّ وعلا، فمنِ اتَّقاه وقاه، وأسعَده ولا أشقَاه.
أيُّها المسلِمون، النفوسُ لها محبوباتٌ تهواهَا ورَغَباتٌ تَعشقُها وتطلُبها، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران: 14].
ولكن الخطرُ على الدينِ والدنيا يكمُن في تحكُّم الشهواتِ المحرَّمة والملذّات الممنوعةِ بالعبد، فتجِدُه يتَّخذ هواه إلهًا يُعبد، فهو متعبِّد لهواه حبًّا وخوفًا ورجاءً ورِضاء وسخطًا وتعظيمًا وذلًا، فإن أحبَّ أو أبغض أو أعطى فلهواه ليس إلا.
تمكَّن منه هواه فسيطرَ عليه سيطرةَ المقاتل على أسيرِه، فهو بهذا المسلَك قد جعَل الحكَمَ والضابطَ هواه وملذّاتها ومشتهياتها، ولو خالف ذلك المنهَجَ الإلهيّ والهدي النبوي. قال قتادة: "إنَّ الرجلَ إذا كان كلّما هَوي شيئا ركبه وكلّما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزُه من ذلك ورعٌ ولا تقوى فقد اتخذ إلهه هواه". وربنا جلّ وعلا يقول فيمَنْ هذا وصفه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 14]. قال بعض السّلف: "شرّ إلهٍ عُبد في الأرض هو الهوى".
ومن هنا إخوةَ الإسلام، فمن المناهِج المفسِدة للدّين والمضِلَّة عن الصراطِ المستقيم اتّباعُ الناسِ أهواءَهم دونَ الالتزامِ بِشرع ربّ العالمين ولا سنّة سيد الأنبياء والمرسلين عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص: 50].
إخوةَ الإسلام، إنَّ مَن ينظُر اليومَ ببصيرة مستنيرةٍ بنورِ القرآنِ والسنّةِ يعلَم ما حلَّ بالقلوب والعقول، وما وقعَ فيه الأفرادُ والمجتمَعات نتيجةً لاتّباع الأهواءِ في كثيرٍ منَ الأوضاع والأحوال، من غيرِ أن تُحكَم بميزانِ شرعِ ربِّ العالمين وهديِ سنّة سيِّد الأنبياء والمرسلين عليه أفضلُ الصلاة والتسليم.
وهذا هو سببُ الدمار والفساد، وعامِلُ الضلال والشقاء الذي يعانيه المسلمون اليوم. قال ابنُ القيم رحمه الله: "وكلُّ من له مَسكة من عقلٍ يعلَم أن فسادَ العالم وخرابه إنما نشَأ من تقديم الرأيِ على الوَحي والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسِدان في قلبٍ إلا استحكَم هلاكُه، ولا في أمّة إلا وفسَد أمرُها أتمَّ الفساد". وكأنّه -رحمه الله- يحكِي واقعَ الأمة الإسلاميّة اليومَ في كثير من مجالاتها. ودليلُ صحّة هذا المعنى قولُه جلّ وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]، وقوله جلّ وعلا: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ [محمد: 14].
وسيّدُ البشرية ينبِّه أمتَه إلى هذا فيقول فيما رواه البزار وغيره، فيقول : ((ثلاثٌ مهلكاتٌ: شحٌّ مُطاع وهوًى متَّبع وإعجابُ المرء بنفسِه، وثلاث منجِيات: خشية الله في السرّ والعلَن والقصدُ في الفقر والغنى وكلمةُ الحقّ في الغضب والرضا))، ويقول : ((إنّ مما أخشى عليكم شهواتِ الغيّ في بطونكم وفروجكم ومُضلاتِ الهوى)) رواه أحمد بسند صحيح.
إخوةَ الإسلام، ومن أبرزِ مظاهرِ تغليب الهوى والسير وراءَه ما تخوَّفه الشرع المطهَّر على هذه الأمة، وهو الجري وراءَ الملذّات المحرَّمة واتّباع الشّهواتِ المحظورَة واللّهَث وراءَ أهواءِ النفوس ورغباتها وملذّاتها الدنيويّة المفرِطة التي تُنسِي الأمّة عن آخِرَتها وتنأى بها عن رسالتها الخالدة، إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8]. ورسولنا يقول في الحديث الذي أخرجه الشيخان: ((فوالله، ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطتْ على مَنْ كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلِككم كما أهلكتهم)).
معاشرَ المؤمنين، ومن صوَر الأهواء المنتشرَة في المجتمعات المسلمة والتي ولَّدت شرًا كبيرا وفسادًا عريضا: تغليبُ الأهواء في مجالاتٍ كثيرة، ومنها المجالُ الاقتصاديّ، فإنّ انقياد كثيرٍ من الناس وراءَ الشهوَة دَعاهم إلى اكتسابِ الأموال من أقبح وجوهها.
يبرزُ ذلك في التساهل الكبيرِ في صورٍ كثيرة من التعاملاتِ التي يدخُلُها الربا، كما يبرُز ذلك في تحايُل كثيرٍ من المسلمين على بعضِهم البعض وأخذِهم الأموالَ من غير حقّ، كما يبرز ذلك في تساهل كثير في صور من البيوع والتعاملات، أدنى ما يقال فيها: إنها من المتشابهات التي ينبَغي اجتنابها، فرسولنا يقول: ((إنّ لكلِّ أمّة فتنةً، وفتنةُ أمتي المال)) حديث رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
وكثيرٌ في بلاد المسلمين تغليبُ الأهواء في الوظائف بشتى أنواعِها، ويبرز ذلك في إعمال المحسوبيات وتغليب المصالح الخاصّة على المصالح العامة من دون وجل ولا حياء. ومن صور ذلك: تقديم غير الكفء على الكفء حتى في الاستحقاق الوظيفيّ، فيقع المسؤول في الحيفِ بترقية أحدِ المتساويين في الاستحقاق، لا لشيء إلا للأهواء والمصالح الذاتية أو الوشائج النسبية.
وكلّ هذا أمر لا يقِرّه الشرع المبين ولا العقل الرصين، بل هو إعراضٌ عن الصراطِ المستقيم وزلَل عن الهديِ النبويّ العظيم، قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26].
ومن مجالات تغليب الأهواء التي تعايِشها مجتمعات المسلمين اتباعُ الأهواء في الحكم على الأشخاص أو الأقوال أو الأفعال والتصرّفاتِ، وما يحصُل خلالَ ذلك من التعصُّب المقيت للآراء والبغي على الآخرين وتتبّع سقطاتهم والتشهير بأخطائهم والنّيل من أشخاصِهم ونياتهم وبواعِثهم، ناهيكَ عن التناحُر والتقاطُع والتباغضِ والبغيِ الذي تُبرزه وسائلُ الإعلام بشتى صوَرها.
وكلّ ذلك جرَّه حرصُ بعضِ المسلمين على هذه الدّنيا والتفاني من أجلِها، بل الواجبُ في شرع الله الإنصافُ والعَدل بشتى صوَرِه ومختَلف مجالاتِه، والبعدُ عن الهوى الذي يُرِي الإنسانَ ما له من حقوق، ولا يريه ما عليه من حقوقٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135].
واسمَع إلى خالقِ النّفس العليمِ بدائها الخبيرِ بدوائها، وهو وحدَه الذي يعلَم دروبها ومنحَنَياتها، ويعلم أين تكمُن أدواؤها وعِلَلها، وكيف تطارَد في مكامنها ومخابئها، في قوله جلّ وعلا العظيم: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40، 41]. قال الحسن: "رحم الله عبدًا وقف عندَ همّه، فليس يعمل عبدٌ حتى يهمّ، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر". قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام متينٍ عظيم: "صاحبُ الهوى يعميه الهوى ويصمه... إلى أن قال: فليس قصده أن يكون الدين كله لله، أو أن تكون كلمةُ الله هي العليا، بل قصدُه المحبّة لنفسِه وطائفَته أو الرّياء؛ ليُعظَّم هو ويُثنَى عليه، أو لغرض من أغراض الدنيا، بل إنّ أصحابَ الهوى يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدًا معذورًا، ويرضَون عمّن يوافقهم وإن كان جاهلًا سيّئ القصد، فتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسِهم، لا على دين الله ورسوله" انتهى.
ألا وإن أعظمَ خطرٍ على الأمّة الإسلاميّة اليومَ ما تدعُو إليه أهواءُ دعاةِ التغريب من مقالاتٍ تساير أهواءَ الأعداء من الكفار والمنافقين، وتتمشّى مع أغراضهم ومقاصدِهم من إفسادِ أديان المسلمين وأخلاقِهم، مما يطالعنا به بعضُ إعلام المسلمين من مقالاتٍ ساقطةٍ وكتاباتٍ هابِطة، تهدِف إلى جرّ مجتمعات المسلمين إلى مفاسدَ محقَّقةٍ وشرورٍ حاصلة، وربُّنا جلّ وعلا يقول: وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: 77].
فاحذري -أيتها الأمّةُ المسلِمة- من كل دعوة لا تُعين على دين ولا تبني خلُقًا كريمًا؛ تفلِحي وتسعَدي وتسلَمي من الشرور والفتن، نعوذ بالله من الشرور والفِتن ما ظَهر منها وما بطَن.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|