أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن التقوى بلسَم النوائب وتِرياقها، ونورُ القلوب وائتلاقها، ومِرقاة الأرواح وإشراقها، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 4، 5].
ألَا إنَّ تـــــقـــوَى الله أكْـــــرمُ نِــــــسْـــبـــــةٍ يُسَــــامـــي بهــا عنْد الفَخارِ كرِيمُ
إذَا أنْت نافَسْتَ الرِّجالَ على التُّقى خَرجتَ مِنَ الدُّنيا وأنْتَ سلِيمُ
أيّها المسلمون، أقدارُ الباري سبحانه بابتلاءِ الأفرادِ والمجتمعاتِ والدوَل والسالفين من القرون الأُوَل أمرٌ حَتمٌ في السنَن الإلهيّة ليس عنه محيص، واختبارٌ للصّبر بصنوف النُذُر وتمحيص، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35].
آياتٌ قاهرة، وعبرٌ باهرة، وغِيَرٌ ظاهرة، كوارثُ وجوائح، سيولٌ وفياضانات فوادِح، أعاصيرُ ساحقة وبراكين ماحقة، وأوبئة مغتالة وأمراض فتاكة مجتالة، تعجز عن صدِّها قوى الإنسان وتقاناتُه وكشوفاته الدقيقة واختراعاته. ويزداد الأمر هولًا وإعضالا إن فرّط الإنسان في اتِّقاء حِدَّتها وقصّرَ واستهان بالتّصوُّن من مِرَّتها.
وما يصيب المسلم منها من كُرَبٍ واعتلال أو نَقصٍ في الأنفس والثمرات والأَموال إلا كان لفريقٍ مَرقاةً في درجات الكمال، ولآخرَ كفّارةً لسيِّئات الأعمال، وجلَّ أن يظلمَ الباري سبحانه ذرّة مِثقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
فكم لعَمرُ الحقّ في طيّات الضوائِق والمحن من بشائرَ ومِنَن، وكم من أمرٍ ضَنكٍ كاربٍ مريج أعقبَه الله اليسرَ البهيج، وكم أدرَج اللطيف الخبير من آلائه في ثنايا ابتلائه، وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 216].
قدْ يُنعِمُ الله بالبلْوى وإِنْ عظُمَتْ ويَبتلِي الله بعضَ القومِ بالنعمِ
معاشرَ الإخوة، فليُحمَل المسلم دائمًا على الخير؛ لا سيّما إن ألمَّ به البلاءُ والضَّير، أمَا صحَّ عن الحبيب المصطفى قوله: ((عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَه كلَّهُ لهُ خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإنْ أصابَته ضرَّاءُ صبر فكان خيرًا له)) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صُهيب بن سنان رضي الله عنه.
فيا من هَصَرتهم الضراء أو اجتاحَتهم السيول الهوجاء، صبرًا أحبَّتنا صبرا، سيشرِق في كرباتكم بإذن الله أبهى فجر، وتحوزوا بفضل الديَّان أعظم أجر.
لا تسْألُوا عنْها السيولَ فإنهـــا قدَرٌ ومن ذا يصرِفُ الأقدارَا
لكنْ سلُوا عنْها الَّذينَ تحمَّلُوا عِبْئًا ولم يسْتوعِبـــوا الإنــــذارَا
أيّها المؤمنون، ومع الرِّضا بقدَر المولى سبحانه والتسليم لقضائه في فاجِعة السيول التي لوَّعت الوجدانَ ولم يُمحَ هديرُها من الآذان، فقد حصحص في إِثرها الحق وانبلج صبحُها عن منهج الشفافية وانشق، ألا وهو منهج المحاسبة وتقصِّي مدابِّ الفساد والإهمال والتقصير في الواجبات والإخلال والتهاونِ بالأمانات أو الإغلال؛ وذلك بنشر مطويِّ الخبايا والحقائقِ وكشفِ مخفيّ التجاوزات الدقائق التي جرّت على الأمّة الحواطم البوائق؛ بحثًا عن العلل والأسباب، واستشفافًا لما وراء الستر والحجاب، الناتجةِ عن تلك الكارثة العُجاب، وما أسبابها إلا التفريط واللامبالاة والتخوّض في المال العامّ والفرَطات.
فبـأي وعْـيٍ في الإدَارةِ سوَّغُـوا هـــذا البــنـاءَ وليَّنـوا الأحـــجـارَا
ما بالهُم تركُوا العِبادَ استوطَنوا مجرى السّيولِ وواجهوا التيارَا
إخوةَ الإيمان، إنّ فسادَ الذِّمم يحيل الأمم من القِمم إلى الرِّمم، والفساد بريدُ الكساد، كيف وهو مجلبةٌ للشرور والنقم ومسلبةٌ للبركات والنعم، ينتقص الأمنَ والنظام ويعبَث بحضارة المجدِ والعمران؛ وذلك باستغلال ثرواتِ الأمة واستنزافِ مواردِها وانتهازِ قدراتها والسطوِ المبطَّن على مدَّخراتها؛ حتى أصبح الغشّ والتقاعس والمحسوبيّات والتزوير والتواكلُ والرِّشا والتثاقُل من الوسائل المأمونَة والمشارِب الميمونة لتحقيقِ الأهداف ونجاح المقاصد ودفع الغوائل والمفاسد.
إنَّ الأمــــانةَ لــــو علِمْــــتَ كَرامـــةٌ تُولي ذوِيها رتبةَ الإسْعادِ
فابْعدْ هُدِيتَ عن الخيَانةِ كمْ لها في أهْلِها من ذلَّةٍ وفسادِ
ولا تكونُ تلك الخصال اللئيمة والدخائلُ الذميمة إلا في أدنياءِ الهِمم الذين لفَّتهم الأثرةُ الصلِفة والانتهازية الرعناء، التي لا ترجع إلا إلى أحلامٍ حمئة وأذهانٍ صدئة، لا تتحاشى من عِقاب، ولا تجَل من تقريعٍ أو عتاب، ومن كان شأنه العجزَ والجهل فليس هو للحلْم أهل، يقول : ((لا إسلال ولا إغلال))، أي: لا خيانةَ ولا سرقة. أخرجه أبو داود وإسناده حسن.
ولو علِم مُضيِّعُ الواجبات وغالُّ الحقوق ومفرِّطُ المسؤوليات ما فيهما من الفساد والخيانة لزمَّ عنهما عِنانه، بل لو مُثِّل الصدق والإخلاص لكان أسدًا يروع، أو صُور الفساد والاختلاس لكان ثعلبًا يروغ.
ألا لا لعًى للمتَّخِذين مناصبَهم سُلَّمًا للثراءِ غير المشروع، ووظائفَهم للانتهاز الممنوع، ومَن مالأهم بعين مكحولةٍ بالتبسّم والرّضا، وفي الوعيد الرعيد والزّجر الشديد يقول المجتبى صلَوات ربي وسلامه عليه: ((من استعملنَاهُ على عَملٍ فرزقناه رزقا فما أخَذ بعد ذلك فهُو غُلول)) أخرجه أبو داود في سننه.
ألا فلْيَعِ هذا أحفادُ ابن اللُّتبيّة المعاصرون. سلام الله على أهل النزاهة ونظافة اليدِ في زمنٍ استحكمت فيه غُربة هذا المسلك المستدّ، والله المستعان.
لم يــــرْعَــــووا يومًـــا ولم يتذكَّـــرُوا أنَّ الفسادَ غصُونُـــــه لم تـــورِقِ
وعقابُهم يأْتي ولوْ طالَ المدَى بالحقِّ نسمُو دائمًا كي نرْتقِي
معاشر المسلمين، ولئن أنعمنا النَّظرَ فيما تعانيه كثيرٌ من المجتمعات بل وقضايانا المعاصرة لألفَينا أن مردَّ الفشل والإحباط والدون الكاوي كالسياط هو استشراء التَّقصير والإهمال والتسيُّب الإداري والفساد المالي وعدم التحقُّق بالمسؤوليات على ما يُنشَد فيها من كفاءات وخبرات، وذلك هو الداء الدويّ الذي يعتام التفاؤل بالإصلاح والبناء، ويئدُ المشاريعَ الإنمائية الناهضَة والآمالَ المشرقة الوثّابة التي تقتَعِد بالأمة صَهَوات العزّة والسؤدَد والكرامة والشموخِ والحزمِ والصرامة.
تِلكَ الأمانةُ حينَ نرْعاها نرَى مــــا يــــدْفــــعُ الآثــــامَ والأوْزارَا
اللهُ في القـــرآنِ أوْصــــانَـــا بهــــا وبها نُطيعُ المصْطَفى المخْتارَا
أمّةَ العقيدة، أولَيس أعظمَ شناعةً وأسوَأ عاقِبةً ووضاعةً ممّن أُحسِن به الظنّ في مصالح البلاد والعباد، فبدَّدها وما وطَّدها، وأتلفها وما ألّفها؛ استخفافًا واسترخاصًا وخَفرًا للعهد وانتقاصا؛ متناسيًا قول الحبيب : ((كلُّكُم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيّته)) خرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ولله ثم لله! ما إحساسٌ يناجي الفؤاد فيحيل النفوس مرهفاتٍ أو أشدَّ قطعًا والعزائمَ مهنَّداتٍ أو أنكى وقعًا، كالتفاني في خدمة الدين والوطن، ودفع الفساد عنه والأفَن، والعروج به إلى أزكى فنَن وأسمى قُنن؛ لأنَّ طمأنينة المسلم ورخاءَه رهن طمأنينة وأمنِ بلاده، فكيف ببلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله؟!
وما المرءُ إلا حيثُ يقضِي حياتَه لنفعِ بلادٍ قدْ تربَّى بخيرِها
أمّا الذين يبيعون دينهم ويُرخصون أوطانهم من أجل عرَضٍ من مال أو لتحقيق أوهامِ خيالٍ فإنّ مصيرهم الهزيمةُ والانتكاسة والنكال:
ولي وطنٌ آليـــــتُ ألَّا أبيــعـــهُ وأن لا أرَى غيرِي لهُ الدَّهر مالكًا
فقدْ ألِفتْه النفْسُ حتى كأنّه لهـــا جســـــدٌ إن بــــان غُودِرَ هالِكـــا
أمّةَ الإسلام، ومِن معالم الإصلاحِ ومَدارجه أن لا تميُّزَ في المسؤوليات، ولا إبداعَ فيما أُنيط بالمسلم من مهامّ وتكليفات في حقوق البلاد والعباد إلا بالمحاسبة والمراقبة واليقين والخوفِ من المولى الجليل والاستعدادِ ليوم الرحيل، قرينُه العقل الرصين والعلمُ المتين والولاء المكين. بعدَ ذلك أنَى تغرِيه الأحوال بين غُنمٍ وإيناس أو غُرمٍ وابتئاس، وذلك جوهَر الأمانة وتِبرُ المسؤولية التي تجعل من كلّ فرد في الأمة عنصرًا يتدفّق إليه الشعور بتبِعات ما له من الحقّ وما عليه من واجباتٍ في سبيل الحفاظِ على صَرح المجتمَع المشمخِرّ الربوع من كلّ ما يهول ويروع من الشروخ والصّدوع.
حفِظ الله بلادَ الحرمين الشريفين وبلادَ المسلمين جميعًا من البلايا والرزايا، وأمَّنها من الحوادثِ والكوارِث، وسلَّمها من أربابِ الفساد والخيانة، وأعلى شأنَ ذوي الصّدق والإخلاص والأمانة، إنه جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27، 28].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيِّد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفورٌ رحيم.
|