أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، اتَّقوا الله وراقبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تَعصوه، فمن اتقى الله وقاه، ومِن كلِّ ما أهمَّه كفَاه، من نظرَ إلى العواقب نجا، ومن أطاعَ هواه ضلَّ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ [القصص: 50].
وبعدُ: معاشر المسلمين، إنَّ مما جاء في مشكاةِ النبوَّة قولَ النبيِّ : ((مَنْ أصبحَ منكم آمنًا في سرْبِهِ معافى في جسدِه عندَهُ قُوتُ يوْمِه فكأنما حِيزَتْ لهُ الدُّنيا)) رواه الترمذيّ وابن ماجه بسندٍ حسن.
لقد جعل النبي أصولَ حيازةِ الدنيا ثلاثة أشياء: الأمن في الأوطان، والمعافَاة في الأبدان، والرّزق والكفاف، ففقدُ الأمن فقدٌ لثُلُث الحياة، والثلث كثير. ولما كان الأمنُ ثُلثَ العيش امتنَّ الله به على الأسلاف من قريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
أيّها المسلمون، الأمنُ والأمانُ والطمأنينةُ والاستقرارُ مَطلبٌ ضروريٌّ من مطالِب الإنسان، ففي ظلِّ الأمن يرغَد العيش وينتشِر العلم ويتفرَّغ الناس لعبادة ربهم ومصالحِ دنياهم؛ لذا كانت دعوةُ إبراهيم الخليل عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة: 126]، انظر كيف قدّمَ الأمن على طلبِ الرزق؛ لأنه لا يهنأ عيشٌ بلا أمان.
وقد امتنَّ الله تعالى على عبادِه بالأمنِ في مواضعَ كثيرةٍ، منها قوله سبحانه: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26].
قال قتادة بن دعامةَ السدوسيّ رحمه الله في هذه الآية: "كان هذا الحيُّ من العرب أذلَّ الناس ذُلاّ، وأشقاه عيشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه جلودًا، وأبينه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يؤكلون ولا يأْكلون، واللهِ ما نعلم قبيلاً من حاضر أهلِ الأرض يومئذٍ كانوا أشرّ منزلاً منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكَّن به في البلادِ، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطَى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نِعَمه، فإنَّ ربَّكم منعمٌ يحبّ الشكر، وأهلُ الشكر في مزيد من الله" انتهى كلامه رحمه الله.
أيّها المسلمون، ولا زالت هذه النعمةُ مُتواليةً منَ الله تعالى، وما انتُقِصت إلا حين انتَقَص الناس من دينهم، فبدّلوا وغيّروا، وما ضاقتِ الأرزاق ووقعَتِ القلاقل والفتن واستُضعِف المسلمون إلا حين خبَط الشركُ والمعاصي في بعضِ نواحي بلاد المسلمين، ولم تكن جزيرةُ العرب بمنأى عن ذلك، ففي عهدٍ قريبٍ كانت مرتعًا للسلب والنهب والقتلِ والخوفِ، حتى منّ الله عليها بدعوةِ التوحيدِ واتِّباع سنّة سيد المرسلين ، فعادت آمنةً مطمئنَّة، تُجبَى إليها الثمرات من كلِّ مكان، وتفجَّرت كنوز الأرض، وعمَّ الخير حتى صارت مهوَى الأفئدة دينًا ودنيا، وما ذاك والله إلا ببركةِ دعوةِ التوحيد واتِّباع السنة وطاعةِ الله ورسوله والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فلله الحمد كثيرًا.
أيّها المؤمنون، إلاَّ أنّه ليس بين الله وبين أحدٍ نسَب، فبقدر الإيمانِ والتقوى تكون النعمُ والخيرات. نعم، الإيمان والتقوى بهما تفتَح بركاتُ الأرض والسماء، بهما يتحقَّق الأمن والرخاء، وصدق الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف: 96].
الأمن مربوطٌ بالإيمان، الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
أمّا إن بدّل العبادُ وغيَّروا فإنَّ سنن الله لا تحابي، وقد ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
إننا ـ ولله الحمد ـ لا زلنا في خيرٍ من الله بدينِنا وفضلِ الله علينا، لكنَّ النذرَ الإلهية مذكِّرةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]. فحفظُ النعَم وتفادي النقَم لا يكون إلا بطاعةِ الله ورسوله، ومن خالف جرَت عليه سنةُ الله.
وإنّ ما يصيب المسلمين اليوم لهي نذرٌ إلهية لئلاَّ ينسَى الناس ربهم؛ ليعود الشارد ويتنبَّه الغافل ويستغفر المذنب. إن المعاصي والذنوبَ سببٌ رئيسٌ للخوف والقلق والمصائبِ والفتنِ والأمراض والبلايا، قال الله تعالى محذِّرًا من مخالفة رسوله : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 36]. ولما أمر الله تعالى بطاعتِه وطاعةِ رسوله في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال: 20] قال فيما بعد: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الله المؤمنين أن لا يُقِرُّوا المنكرَ بين أظهرهم، فيعُمَّهم العذاب). ثم بعدها امتنَّ الله على المؤمنين بتذكيرهم بما كانوا عليه من خوفٍ ثمّ آمنهم، في إشارةٍ إلى أنّ مخالفة أمر الله ورسوله مؤذنةٌ بالفتن والخوف وانعدام الأمن: وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ [الأنفال: 26].
أيّها المسلمون، طاعةُ الله ورسوله سبيلٌ للثباتِ والنجاةِ من الأزماتِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [النساء: 66-68].
إنَّ الأمة بحاجةٍ ماسّةٍ إلى مراجعةِ نفسِها والعودَة إلى ربها وتركِ المنكراتِ والتعاونِ على البرِّ والتقوى، خصوصًا في هذه الظروف الحرِجَة التي تسلط فيها الأعداء على الإسلام والمسلمين وعلى ديارهم.
إنَّ المفترضَ في هذه الأزماتِ هو الفرارُ إلى الله والتوبةُ النصوح والتنادي بالرجوعِ إلى الله والالتجاءِ إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسكات دعاة الرذيلة وعداة الصلاح.
أمّا الغفلة والتمادي والنومُ عن المنادِي والإصرارُ على مخالفةِ أوامر الله فإنها مَجلَبة النِّقَم مزيلةُ النعم، وتعظُمُ المصيبةُ إذا كانتِ الذنوب تُشْهَر وتُعْرَض ولا تُنْكَر، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين)).
يجب علينا التمسّك بالسنة ولو تركها الناس، وأن نغلِيَها ولو أرخصوها، وندافعَ عنها، ونصبر على الأذى في ذلك، فهذا هو سبيل النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا هو طريقُ الأمن في الدنيا والآخرة. وإذا كثرتِ الفتن تأكَّد التمسّك بالسنن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيّد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. |